بدا لبنان عشية طيّ ثورة 17 أكتوبر شهرَها الأوّل في قلْبِ عاصفةٍ شعبيةٍ - سياسيةٍ - مالية بدأت تطلّ على مخاوف من «كمائن» أمنية أو انزلاقاتٍ نحو توتراتٍ قد يجري «استثمارُها» إما في سياق «الحرب الباردة» بين أطراف السلطة على كيفية احتواء الانتفاضة والسقف الممكن لملاقاة «دفتر شروطها» وإما في إطار السعي لإخماد الحِراك الذي يستمرّ بوتيرةٍ تصاعُدية منذ 29 يوماً بعدما نَجَحَ في تَجاوُز العديد من «الأفخاخ» التي انطوتْ على محاولاتٍ لتفجيره من داخله بتطييفه أو تسييسه.
وفيما كانت الانتفاضةُ تشهد أمس يوم تَضامُنٍ كبير مع «شهيد الثورة» عضو بلدية الشويفات (أمين سر وكالة داخلية الشويفات في الحزب التقدمي الاشتراكي) علاء أبو فخر الذي قُتل برصاص أحد عناصر مخابرات الجيش ليل الثلاثاء تحت جسر خلدة جنوب بيروت، ارتسمتْ بوضوح ملامح دخول الثورة مرحلةً جديدة من «المواجهة الناعمة» مع السلطة، في موازاة اشتداد «عضّ الأصابع» بين مكوّنات الائتلاف الحاكم على تخوم ملف تشكيل الحكومة الجديدة وفوق «برميل بارودٍ» بات يشكّله الواقع المالي - النقدي - الاقتصادي.
ولم يكن أدلّ على هذا الواقع المُسْتَجِد من عودة الانتفاضة للعب «ورقة» قطْع الطرق الرئيسية في غالبية المناطق بعدما فجّرتْ الإطلالةُ التلفزيونيةُ للرئيس ميشال عون ليل الثلاثاء غضبةً كبيرة على خلفية مواقف اعتبرها المتظاهرون إدارةً للظهر لهم في نقاط عدة أبرزها: مطْلبهم الرئيسي بتحديد موعدٍ لاستشارات نيابية مُلْزمة لتكليف رئيسٍ للحكومة الجديدة (بعد 17 يوماً على استقالة الرئيس سعد الحريري) التي يريدها هؤلاء من اختصاصيين مستقلين تمهّد لانتخابات نيابية مبكرة، إذ تَمَسَّك عون بتشكيلة تكنو - سياسية مع عدم حسْمه مصير مشاركة الوزير جبران باسيل في أي تشكيلة جديدة (رغم إعطائه إشارات إلى أنه يفضّل حكومة لا تجمْع بين النيابة والوزارة ما يعني ضمناً استبعاد باسيل)، وصولاً إلى كلامه الذي فُسِّر (رغم التوضيح الذي أصدره القصر الجمهوري) على أنه دعوة للمُنتفضين لأن «يهاجروا» إذا كانوا يرون أن ليس هناك «أوادم» في لبنان، وما اعتبروه تحذيراً ضمنياً من قمْعهم إذا بقوا في الشارع وواصلوا قطْع الطرق وتحميلهم مسؤولية «النكبة» التي ستصيب البلاد جراء ذلك، وليس انتهاءً بقوله «أخذنا بالاعتبار ما يريده الناس وسننفذه، واذا لم يكونوا يريدون تصديقنا فإنهم يضربون الوطن بالخنجر (...) بالثورة نحن لن نذهب».
وعلى وهج «الغليان» الذي سادَ الساحات منذ ليل الثلاثاء، لاحتْ مؤشراتٌ إلى أن «بقعةَ الدم» التي غرق فيها أبو فخر خلال محاولة قطْع طريق خلدة (بعيد المقابلة التلفزيونية لعون) على مرأى من زوجته وابنه (12 عاماً) تنذر بأن تتمدّد في اتجاهيْن: الأوّل شعبياً في ظلّ الزخم الذي استعاده الشارع منذ التداول بفيديوات للحظة مقتل أبو فخر والمَشاهد المُفْجِعة لصراخِ نجْله «بابا بابا» و«انفجار» شريكة حياته بكاءً، وهو ما تَكرَّس أمس بتقطيع أوصال المناطق والتجمّع في ميادين الانتفاضة.
والثاني سياسياً وسط اندفاعة غير مسبوقة من المنتفضين نحو المطالبة برحيل عون، وصولاً إلى تنظيم تظاهرة في اتجاه قصر بعبدا وقفت على بُعد نحو كيلومترين منه بفعل الإجراءات الأمنية.
ولم يحجب «أربعاء الغضب» علاماتِ الاستفهام حول خلفيات مقتْل أبو فخر، الذي أعلنه الثوار «أيقونة» ورفعوا صوره في الساحات وأقاموا نصباً له في مناطق عدة وأبرزها عند نقطة مقتله التي «زنرّتْها» شموع في شكل خريطة لبنان «حرستْها» الورود والعلم اللبناني، وسط ملاحظة دوائر سياسية أن احتجاجات يوم أمس تخللتْها احتكاكات «بين شارعيْن» في محلّة جل الديب (ساحل المتن) ما أدى الى وقوع جرحى.
وإذ لاحظتْ هذه الدوائر أن زعيم «التقدمي» وليد جنبلاط حرص على النزول على الأرض شخصياً ليل الثلاثاء لمنْع انزلاق الأمور نحو أي ردّات فعل، وهو توجّه مع نجله تيمور إلى المستشفى الذي نُقل إليه أبو فخر داعياً إلى التهدئة والاحتكام إلى «الدولة وحدها»، في ظلّ توجُّه في الشارع لتحويل تشييع ابو فخر (اليوم) محطة شعبية في الشويفات وساحة الشهداء (وسط بيروت)، كثرت الأسئلة حيال سبل الخروج من المأزق الكبير الذي يُخشى أن يتحوّل «جاذبة صواعق» في ظلّ تضارُب الحسابات والاعتبارات التي تتحكّم خصوصاً بمقاربة أطراف السلطة للملف الحكومي والحلول الممكنة له.
وبدا مع العدّ التنازلي للمهلة الافتراضية التي أوحى عون أنها قد تكون غداً أو بعد غد للدعوة إلى إجراء الاستشارات النيابية المُلْزمة لتسمية الرئيس المكلف تشكيل الحكومة، أن عملية «مَن يصرخ أولاً» بين اللاعبين ازدادتْ شراسةً وكأنهم أمام جولة حاسمة وأخيرة من كباش يدور بلا هوادة لـ «ليّ الأذرع» فوق حلبةٍ من خياريْن في شأن الحكومة العتيدة هما:
* الحكومة التكنو - السياسية التي يريدها وبإصرار فريق عون والثنائي الشيعي «حزب الله» وحركة «أمل» بزعامة رئيس البرلمان نبيه بري على أن تكون برئاسة الحريري الذي ترغب هذه الأطراف وبقوة في بقائه على رأس الحكومة كونه الأكثر ملاءمة في التعاطي مع المجتمعيْن العربي والدولي.
* حكومة التكنوقراط من وزراء اختصاصيين ومستقلين يشترطها الحريري كممرّ وحيد لاحتواء الانهيار المالي - الاقتصادي، وهو ما يطالب به أيضاً حزبا «القوات اللبنانية» و«الاشتراكي».
ومن خلف الأجواء الدراماتيكية التي ألقتْ بثقلها على البلاد بعيْد الحوار التلفزيوني، اشتعلتْ حرب تسريبات أمس على جبهة ملف تشكيل الحكومة وركّزت على أن الحريري «اعتذر» عن تشكيل الحكومة العتيدة.
وتجلت موجة الاشاعات في أمريْن:
* الإيحاء من فريقيْ عون و«حزب الله» بأن القرار اتُّخذ بتشكيل حكومة تكنو - سياسية تحظى بثقة البرلمان.
* إشاعة أجواء عن أن البحث جارٍ عن شخصية سنية يوافق عليها الحريري أو تكون بديلاً منه لترؤس الحكومة.
ورأت أوساط سياسية أن الكلام المتعمّد عن اعتذار الحريري والاتجاه الحاسم لتشكيل الـ «تكنو - سياسية» بدا أقرب إلى مناورة ربع الساعة الأخير لانتزاع تنازلاتٍ من الحريري الذي يتمسك به خصومه رئيساً وحيداً للحكومة العتيدة.
ولم تستبعد الأوساط إمكان خفْض «حزب الله» شروطه أو تراجُعه خطوة الى الخلف عبر القبول بحكومة تكنوقراط يترأسها الحريري.
وكان هذا الاستقطاب وخصوصاً بين قصر بعبدا و«بيت الوسط» (دارة الحريري) تجلى مع إبلاغ عون إلى الموفد الفرنسي كريستوف فارنو، الذي زار بيروت بتكليف من الرئيس ايمانويل ماكرون، أن خيارَه للحكومة الجديدة يقوم على أن تكون «مؤلّفة من سياسيين وتكنوقراط لتأمين التغطية السياسية اللازمة كي تتمكن من نيل ثقة الكتل النيابية إضافة الى ثقة الشعب».
وترافق ذلك مع إصرار الحريري على الردّ عبر مصادره على التسريبات حول اعتذاره، مؤكداً أن موقفه معروف وجرى إبلاغه لكل الشركاء وهو يقضي بتشكيل حكومة اختصاصيين تتصدى لمعالجة الملف الاقتصادي والمالي وفقاً لأجندة زمنية لا تتجاوز ستة أشهر «لكن هذا الاقتراح اصطدم بمعارضة جهات سياسية أخرى بينها قصر بعبدا والتيار الوطني الحرّ»، ومعتبراً أن التكليف لم يحصل بعد كي يعتذر.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك