لم يصدر بيان وزارة الخارجية اللبنانية الذي يدين التدخل التركي في شمال شرق سوريا من فراغ أو من صدفة. فالبيان ينسجم مع موقف النظام السوري، وموقف الأنظمة العربية التي تداعت سريعاً إلى إصدار بيانات الإدانة، ورفع راية العروبة، ورفض التدخل في الشؤون العربية، وصولاً إلى دعوات لعقد اجتماعات عاجلة للجامعة العربية لإدانة التدخل التركي.
يُرضي بيان الخارجية اللبنانية العرب، بعدما امتنع جبران باسيل، في موقف أطلقه قبل أسبوعين، عن إدانة الهجوم على أرامكو السعودية، كي لا يحرج إيران التي تثمن عدم تضامن الخارجية اللبنانية مع العرب، والسعودية تحديداً.
والإدانة اللبنانية لتركيا، استكمال لموقف أطلقه رئيس الجمهورية ميشال عون في الأمم المتحدة، حول استعداد لبنان لإعادة تفعيل علاقته مع النظام السوري. لا يريد عون انتظار الدول العربية للتنسيق مع نظام الأسد، بل يريد للبنان أن يكون المحفز وفاتح تجديد العلاقات مع دمشق. وكان عون مهّد لذلك بشن هجوم على الأتراك والعثمانيين في ذكرى مئوية لبنان الكبير. وهذا ما يتماشى مع إدانة التدخل التركي في سوريا وعدم إدانة التدخل الإيراني والروسي فيها.
تكتنف المواقف اللبنانية العونية جملة تناقضات: تؤيد بحماسة شديدة دخول حزب الله إلى سوريا وقتاله شعبها وثورتها بحجة مقاتلته الإرهابيين هناك، لأنهم يشكلون خطراً على لبنان وأمنه وحدوده. ثم تدين تدخل تركيا في سوريا، الذي ترى أنقرة أنه يهدف إلى إشاعة الأمن على حدودها الجنوبية، ويمنع قيام كيان كردي يهدد أراضيها.
هذه الازدواجية العونية، ليست بعيدة عن ازدواجية الأنظمة العربية التي أدانت التدخل التركي لأنه يهدد سيادة سوريا ووحدة أراضيها (كأنما في سوريا سيادة سورية وطنية، وكأنها موحدة!). هذا فيما كانت الدول العربية إياها تدعم الأكراد الذين لديهم مشروعاً انفصالياً يهدد وحدة الأراضي السورية. وفيما هي أيضاً تتدخل في اليمن وليبيا لحماية أمنها القومي.
موقف عون حول التنسيق مع النظام السوري وإعادة العلاقات، ينطوي على استعجال لطي صفحة القطيعة، بذرائع "تجارية، واقتصادية، ومالية، وزراعية". لكن موقفه سياسي في أساسه، وغايته إعلان مرحلة جديدة تؤكد انتصار خياره اللبناني والسوري وفي المنطقة أيضاً: الالتحاق بحزب الله وإيران. ولكن الرهان العوني في عمقه، أبعد بكثير من مجرد إعلان الانتصار السياسي أو المعنوي، بل يُراد للانتصار أن يتكرس في مجالات مختلفة، عميقة وشاملة: الهيمنة السياسية والأمنية والاقتصادية والإدارية على لبنان.
ثمة قراءة لبنانية تطابق بين ما جرى في سوريا، وبين نتائج الحرب اللبنانية التي انتهت بتوافق دولي وعربي - خليجي، على تولي سوريا حافظ الأسد وأجهزته الأمنية إدارة الشأن اللبناني. اليوم يتكرر الأمر نفسه في سوريا: الوصول إلى توافق دولي - خليجي على التسليم بالنفوذ الإيراني - الروسي في سوريا. ويُراد اليوم أن ينسحب هذا النفوذ على لبنان، ليستفيد منه الطرف القوي في الحكم، على غرار ما استفاد رفيق الحريري ما بعد الطائف.
وما يشهده لبنان اليوم من صراع سياسي، أو من بعض الممارسات، يشبه استعادة حقبة الوصاية السورية على نحو مختلف. وصاية تمارسها طهران وحزبها اللبناني المسلح وحلفاؤها المستعجلون إلى إعادة تطبيع العلاقات مع دمشق. والمرحلة اللبنانية الراهنة تشبه إلى حدّ بعيد مرحلة إميل لحود، التي نعيش تداعياتها اليوم، بينما سنعيش تداعيات العهد الحالي، بعد عشر سنوات. وما هو مشهود اليوم منها، ليس إلا تفاصيل قياساً إلى ما سيتكشف لاحقاً.
وفق هذه المعطيات حصل الاشتباك في الجلسة الأخيرة لمجلس الوزراء: حل ملف التطبيع مع سوريا والتنسيق معها، وتشكيل وفد رسمي لزيارتها والتباحث في كيفية استفادة لبنان من فتح معبر البوكمال. في الجلسة بدأ الوزير محمد فنيش بالحديث عن ضرورة التنسيق مع نظام الأسد وإعادة العلاقات معه إلى طبيعتها. سانده وزراء التيار العوني وعلى رأسهم جبران باسيل، واعترض على ذلك وزراء الاشتراكي القوات اللبنانية. هنا تدخّل باسيل كاشفاً إنه ناقش الموضوع مع رئيس الحكومة قبل يومين، معتبراً أن الحريري وافق على استفادة لبنان من افتتاح معبر البوكمال، من دون الموافقة على إعادة العلاقات الرسمية. كان رأي الحريري مطابقاً لرأي وزراء القوات والاشتراكي: هناك وزراء يزورون سوريا فردياً، ولتبق العلاقات وفق هذا المنطق. وفي هذا السياق رفض الحريري الخروج على الإجماع العربي، معتبراً أن ليس من داعٍ لفتح ملف إشكالي جديد، لكنه أردف أن بعض الدول العربية قد تذهب إلى تفاوض مع النظام السوري، وعلى لبنان الانتظار.
الأخطر في ما جرى، هو أن الحريري تمنى على الوزراء عدم فتح سجالات إعلامية حول ما جرى، كي لا يزداد التوتر، والبلد بغنى عنه. التزم وزراء القوات والاشتراكي، بينما أصرّ وزراء التيار العوني على تسريب ما جرى وتقديم روايتهم: خرج وزير الدفاع الياس بو صعب، وتوجه للصحافيين بالسؤال: هل علمتم بما حصل من سجال في خصوص التنسيق مع سوريا؟ هنا استغرب الصحافيون ما قاله بو صعب، وبدأوا بالسؤال عن الموضوع. قدم وزراء التيار العوني رواياتهم خارقين بذلك تمنّي الحريري.
ليست هذه المرة الأولى التي يلجأ فيها العونيون إلى تسريب أجواء متفق على عدم تسريبها. وكالعادة هدف السريب العوني حشر الحريري وغيره في ما يخص العلاقة بدمشق.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك