يصعب أن يستقرّ العالم ويرسو على وجهة ونسق ما لم تستقرّ الولايات المتّحدة على وجهة ونسق. وقول كهذا لا ينبع ممّا يسمّيه بعض السخفاء «عقدة الرجل الأبيض»، مزوّرين شعورهم بالنقص بحيث يبدو شعوراً ظاهريّاً ومضحكاً بالتفوّق. إنّه ينبع من حقيقة أنّ أميركا هي الأولى في العلم اقتصاداً وثقافة وعلماً وقوّة عسكريّة وإنتاجاً للصور على أنواعها، أي أنّها الدولة والمجتمع الأكثر حضوراً في العالم كلّه والأشدّ تأثيراً بالتالي فيه.
والمدخل إلى الاستقرار له اليوم عنوان واحد: أن لا يصل دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، الأمر الذي لا يتطلّب أيّ جهد للبرهنة على خطورته. إلاّ أنّ توطيد هذا الاستقرار يملك عنواناً آخر يتكاثر اليوم عدد المُنبّهين إليه: إنّه التغلّب على شروط الترامبيّة، أمثّلها الدجّال والمهرّج الحاليّ أم مثّلها دجّال آخر من بعده. وما يعنيه هذا محاصرة أسباب التهميش والإفقار اللذين يعانيهما ملايين الفقراء، لا سيّما البيض منهم، الذين صعد ترامب على أكتافهم، كما عوّلت على إغرائهم مخاطبات شعبويّة أوهمتهم باستعادة «أميركا البيضاء» أو «أميركا العظمى». وهذه الأخيرة لا يكمن مرجعها في عالم ما قبل التعدّديّة الإثنيّة والثقافيّة فحسب، بل يذهب ببعض أصحابها إلى ما قبل إلغاء العبوديّة نتيجة الحرب الأهليّة في الثلث الثالث من القرن التاسع عشر.
وما لا شكّ فيه أنّ ظاهرة بيرني ساندرز، في ترشّحه لمنافسة هيلاري كلينتون ثمّ في تأييده لها، فرضت على الأخيرة برنامجاً اجتماعيّاً أكثر تقدّماً وسعياً إلى توسيع قاعدة المستفيدين من العولمة وما أوجدته من ثراء. ووفقاً لساندرز نفسه، فإنّ ما التزمت به كلينتون كفيل بإحداث تحويل بالغ الأهميّة لمصلحة مَن هم أضعف قدرة وأقلّ حظّاً وأكثر إحساساً بأنّ التقدّم التقنيّ والعلميّ تجاوزهم.
فإذا صحّت التوقّعات القائلة إنّ كلينتون ستفوز، لا سيّما إذا فاز معها حزبها الديموقراطيّ في إحراز الأكثريّة في مجلسي الكونغرس، كنّا فعلاً أمام حدث تاريخيّ ضخم. ذاك أنّ الإصلاحات الكبرى الموعودة ستمرّ، في هذه الحال، من دون عقبات يفرضها الجمهوريّون. وهو احتمال، إذا ما تحقّق، طوى صفحة كما فتح صفحة لن تقتصر ثمارها على أميركا وحدها، وإن مكّن الأخيرة من أن تستعيد نهوضها في الخمسينات والستينات، وتستعيد معه التفاؤل بالعالم وبالمستقبل. وفي هذه الغضون، وهو ما لا تندر سوابقه في التاريخ، تتحوّل كلينتون نفسها من سياسيّة عاديّة ومضجرة يشوب سيرتَها الفسادُ، إلى صانعة لحقبة قد تضمر معها، وفي آن معاً، النيوليبراليّة والشعبويّة بوصفها البديل المزعوم والوهميّ. ووجهةٌ كهذه في محاصرة الترامبيّة، أميركيّاً وعالميّاً، قد تجد ما يعزّزها في سياسات توظّف الرمزيّة التقدّميّة لاعتلاء امرأة المنصب الأوّل في العالم، وفي سياسة خارجيّة تتصدّى للتوسّع الروسيّ والإيرانيّ في الشرق الأوسط وأوكرانيا. يلحّ على هذا الطلب الأخير أنّ شعوب منطقتنا غدت قاب قوسين من نهايات مأسويّة كبرى يستحيل وقفها من دون مؤتمر دوليّ يمهّد له تعديل الاختلال المتعاظم في توازن القوى الراهن.
أمّا إذا حصل الأسوأ وفاز ترامب، وهو احتمال يتراجع لكنْ لا يختفي، فسيكون أثر الحمائيّة والانعزاليّة الاقتصاديّتين مدمّراً لأميركا وللعالم سواء بسواء. فإذا لم تكفِ الطاقة التدميريّة التي تنطوي تلك السياسات الاقتصاديّة عليها، أضافت إليها الترامبيّة طاقتين أخريين: سياسة قيم يخجل بها التخلّف الذكوريّ العاديّ، وسياسة خارجيّة تتذرّع بعدم التدخّل المطلق، وتسهّل في واقع الأمر عمل فلاديمير وبوتين وبشّار الأسد، وأوّلهما موضع إعجاب ترامب وثانيهما موضع تفضيله.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك