تقيم الكنيسة المارونية على انظمتها وقوانينها وتقاليدها واعرافها الدينية والزمنية بما يبقي استحقاقها الانتخابي خلاصة لمجموع اسرارها المودعة لدى مجمعها الانتخابي في ايام انعقاده وصولا الى صعود الدخان الابيض. ومع ان اسرار انتخاب البطريرك السابع والسبعين للموارنة صارت مع لحظة اعلانه صفحة مطوية في عهدة منتخبيه، فان البطريرك المنتخب مار بشارة بطرس الراعي بدا لماحا ذا ادراك ثاقب في اطلالته الاولى بطريركا على الرأي العام الماروني وعبره الرأي العام اللبناني بأسره خصوصا حين توجه الى سلفه الكبير التاريخي الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير بصفته "بطريركنا الدائم". هنا تماما سر الاسرار الذي يطلع مع فجر بكركي الجديد وفجر الانتقال الكنسي الديموقراطي السلس والانتقال الديني والوطني الصعب اللذين حطّا رحالهما على عاتق البطريرك الراعي.
سيقال الكثير عن البطريرك الجديد، في ما يستحقه وفي ما يُراد له إثقاله به او في ما ينحرف حتى عن المعايير الكنسية الى معايير السياسة. وهذا امر طبيعي جدا. فالكنيسة المارونية، وعلى اهمية الكنائس الاخرى الشقيقة، هي صاحبة التأثير الساحق في الحياة الوطنية والسياسية والاجتماعية ليس للموارنة وحدهم بل لمجموع المسيحيين. غير ان البطريرك الراعي شخصيا، ولا ندري كم لعب ذلك دورا في اسرار انتخابه، قد يكون اكثر المطارنة والاحبار الموارنة معرفة ومراسا وادراكا لحقيقة الالتصاق المزمن الطويل بين صورة البطريرك – القائد في معالمها الواقعية والدينية والوطنية وتوجهات الرأي الام الماروني.
لقد وفّر المراس الطويل للبطريرك الراعي رئيسا للجنة الاسقفية للاعلام الكاثوليكي في المنابر والمنتديات الكنسية المفتوحة والمشرعة على طول المناطق اللبنانية وعرضها مكانة لم تتوفر لسواه في اخطر موقع من مواقع الحداثة التي ادركت الكنيسة تأثيرها الساحق على المسلمات والاقتناعات، وهو الموقع الاعلامي والجدلي والاحتكاكي.
بذلك يغدو محسوما ان البطريرك الخلف هو اكثر من عاين التأثير الهائل للبطريرك السلف سحابة ربع قرن على حقبات مصيرية متعاقبة منذ العام 1986 والى يوم انتخاب البطريرك السابع والسبعين.
وحسب البطريرك الراعي انه يمتلك هذا الادراك الى زاد هائل متراكم من معرفة توجهات الموارنة في كل الانحاء المقيمة والمنتشرة في المغتربات كما تمتعه بنبض جريء مشهود له في مواقفه ليعرف تماما ماذا ينتظره.
سيتنكب البطريرك الراعي لأخطر مهمتين عند تنصيبه. الحفاظ على مهابة استثنائية بالكامل تركها البطريرك السلف الكبير، وتطوير هذه المهابة الى بنية كنسية مؤسساتية حديثة تحاكي القرن الواحد والعشرين والمتغيرات الدراماتيكية التي لحقت بالموارنة وكذلك بالمسيحيين في هذا الشرق المأزوم.
وليس اكثر من البطريرك الراعي بين اقرانه من "تورط" او انخرط في استكشاف عوالم الناس واكتسب قبل انتخابه مراس نجومية "الاضواء" الساطعة، اضواء الاعلام والانخراط في الجدل الصعب بين الزمني والديني، والمبدئي والمتحرك، والسياسي والفئوي، وما الى ذلك. لكن على كرسي بكركي سيختلف كل شيء. وهو ما يدركه ايضا سيدها الجديد الذي سيقيم سعيدا على اعرق موقع ليس دينيا فقط بل وطنيا ايضا، وفي حرمها وفي "جيرته" البطريرك السلف وظله الدائم. وبين "مجد لبنان" وفجر التغيير المحتوم، اتقن البطريرك الراعي كشف سره الاول راسما في اول الكلام، الحدود الواسعة لمعرفته بما ينتظره منه كل اولئك الذين انتخبوه من داخل اسوار بكركي وخارجها على امتداد الانتشار الماروني.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك