لم يأت اجتماع المجلس الاعلى للدفاع، رغم ما قيل عن سرية المداولات والمقررات، ليضيف جديدا على ما يعرفه السياسيون المعنيون مباشرة والقادة الامنيون الذين يطلعون مرجعياتهم السياسية على التقارير الامنية المصنفة سرية. ذلك ان الامن لم يعد، كما كانت حال بعض من يتعاطى الاحصاءات، وجهة نظر، ما دامت الاجهزة الامنية موزعة وفقاً لانتماءاتها السياسية، بعدما كانت موزعة طائفية. لذا تحول الحديث عن وجود "القاعدة" في لبنان، كلاما سياسيا بحتا بغض النظر عن حقيقة تنظيم امتلاك الجيش اللبناني او قوى الامن الداخلي او الامن العام معلومات، عن وجود عناصر من "القاعدة" ام لا في لبنان.
وخطورة هذا الكلام تتعدى المناكفات المحلية، لانه يضع لبنان مباشرة تحت مجهر مجلس الامن والولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي التي تصنف "القاعدة" تنظيما ارهابيا، وتاليا يحق لها التعامل معه بالوسائل الممكنة لضربه. وتذكيرا فان تنظيم “القاعدة” أدرج في 6 تشرين الأول 2001 في اللائحة الموحدة كاحد اهم التنظيمات الارهابية، وان مجلس الأمن بمقتضى القرار 1390 (2002) وسع نطاق تدابير مكافحة الإرهاب ليتجاوز حدود أراضي أفغانستان ويشمل المرتبطين بحركة "طالبان" وأسامة بن لادن وتنظيم "القاعدة" أفراداً وكيانات، الامر الذي اجاز للدول الملتزمة القوانين والمعاهدات المختصة بمكافحة الارهاب، ضرب هذا التنظيم في اي بلد في العالم.
وهذا يعني ان سحر الكلام الصادر عن وزير الدفاع فايز غصن، قد ينقلب على الساحر، ويعود لبنان مجددا ليكون احدى الدول المارقة التي تؤوي ارهابيين. من هنا جاءت المسارعة الداخلية لسحب كلام غصن لانه يعد "خطأ قاتلا" رغم ان محاولات حصر الاضرار لن تكفي وحدها لازالة القلق لدى الدول التي تشارك في القوات الدولية في جنوب لبنان.
وفتح ملف "القاعدة " جاء مبتورا امنيا لان حبل الامن الفالت في اكثر من مكان، ليس محصورا بتنظيم اصولي يتحرك في اتجاه سوريا، بحسب كلام غصن، اذ ان لبنان يعيش منذ اشهر على ايقاع فلتان امني متعدد المستوى.
وبحسب خبراء الامن المنكبين منذ اعوام على رصد التطورات الامنية وايقاعاتها، فالامن اليوم يتوزع على اربعة مستويات:
الاول، الاحداث الامنية العادية من سرقات وتعديات ولو تجاوزتها الى اعمال قتل واغتصاب، وهي اعمال مصنفة انها تحدث في كل الدول. لكن هذه النوعية كثرت في الآونة الاخيرة واتخذت طابعا عنفيا ( بما في ذلك السلوكيات المتهورة في قيادة السيارات في غياب فاضح لعناصر قوى الامن في ضبط المخالفات). والمفارقة ان الجيش بدأ يصدر نشرات شبيهة بتلك التي تصدرها قوى الامن حول اعمال التوقيفات المتعلقة بهذه الجرائم والتي ترتفع شهرا بعد آخر. وتعزو المعلومات الامنية ارتفاع حصيلة الجرائم الى التشنج السياسي والانفلات الاداري حتى في اعمال المراقبة وضبط الامن والادارة الذاتية في بعض المناطق. ويتحدث امنيون بوضوح عن مناطق محددة تطلب فيها القوى السياسية من الجيش التدخل لقمع الخارجين عن القانون والمهربين، لكن الجيش يتريث لاسباب لوجستية واحتمال تعريض عناصره للخطر من دون ان يتمكن من تحقيق المعالجة الامنية المطلوبة، لافتقاره الى العديد المناسب والتجهيزات، ولمعرفته سلفا ان ثمة عائلات قد تلجأ الى العنف القاتل في حق الجيش لحماية افرادها المطلوبين.
المستوى الثاني هو الاحداث الامنية "غب الطلب"، والتي كانت اسلوبا رائجا خلال الوجود السوري في لبنان، ولا يزال معمولا به كلما استدعت الحاجة ضغطا امنيا او سياسيا. وهذا النوع يشمل انفجار العنف في المخيمات الفلسطينية، اذ تندلع اشتباكات وتحصل اغتيالات، ثم يعود الهدوء من غير ان تعرف الاسباب الموجبة وكيف استتب الوضع وانكفأ الظهور المسلح فجأة. وفي هذه الخانة ايضا يندرج اطلاق الصواريخ من الجنوب في اتجاه اسرائيل، تارة لاسباب سورية وتارة لدوافع ايرانية. ومراجعة التواريخ التي اطلقت فيها هذه الصواريخ على مدى الاعوام الماضية، تؤكد ارتباطها بتطور اقليمي او تعثر في مشكلة داخلية لمصلحة اطراف اقليميين. وحتى اليوم لم تعلن الجهات الامنية اللبنانية اي خلاصة لحصيلة التحقيقات التي اجرتها عن اطلاق الصواريخ.
يضاف الى ذلك التفجيرات التي تتناول محال تجارية او منتجعات تبيع خمورا في الجنوب، وتشكل هذه الحالة اسلوبا جديدا في عرض واقع امني ملتبس بين الغاية الاصولية المتعددة الوجه سنيا وشيعيا، وارسال رسائل محددة بالزمان والمكان.
المستوى الثالث الوضع في جنوب لبنان، وهو على رغم تعرضه لانتكاسات لها صلة باستهداف القوة الدولية من حين الى آخر ولدوافع معروفة، فانه لا يزال محكوما باتفاق الهدنة والقرار 1701 ووجود اكثر من عشرين الف جندي لبناني ودولي. وفي انتظار انتهاء النقاشات حول الاستراتيجية الجديدة لعمل القوة الدولية والجيش فان هذا الوضع يشكل حالة مضبوطة الايقاع، حتى لجهة اسباب الخرق فيها.
اما المستوى الرابع فهو الذي استجد مع اندلاع الاحداث السورية، اي الحدود اللبنانية المشتركة شمالا وشرقا . والهاجس الذي كان لدى فريق 14 آذار من تسريب السلاح الى لبنان منذ عام 2005 ورغبة الدول الكبرى في معاينة الحدود وضبطها، تحول اليوم هاجسا سوريا عبر عنه اخيرا السفير السوري علي عبد الكريم علي في المطالبة بضبط الحدود مع لبنان. مشكلة الحدود اليوم تنقسم قسمين: شمالا حيث التماس الدموي مع احداث حمص وتفاعلاتها الخطرة. وتكمن حساسية هذه المشكلة في انها تمتد من وادي خالد الى طرابلس بكل تشعباتها المذهبية، وتشكل نموذجا في تعاطي الحكومة اللبنانية مع مواطنيها. اذ ان نصف اعضاء الحكومة مثلا لم يتعاطفوا مع مقتل ثلاثة من ابناء الشمال على يد القوات السورية، لا بل ان بعضهم تبنى الخطاب السوري، متجاهلا مطالبة المعارضة بتحويل هذا الامر الى مجلس الامن كونه يمثل اعتداء من دولة على دولة.
واذا كان لبنان قد نأى بنفسه في مجلس الامن او في اجتماعات الجامعة العربية عن الوقوف ضد اي قرار يمس سوريا، فان سياسة النأي حيال مواطنيه تعد سابقة من نوعها. لكنها تبدو طبيعية في حكومة لكل من وزرائها رواية مختلفة عن حقيقة ما حدث في الشمال او في عرسال، لذا كان قرار بحث الملف الامني في مجلس الدفاع الاعلى وليس الحكومة وحدها. والحدود البقاعية الشمالية، تحولت بين يوم وآخر مكانا لتهريب السلاح الى داخل سوريا بحسب روايات امنية، وما حكاية رعاة الماعز فجرا وفي منطقة يلفها الصقيع سوى تمويه للتهريب. في حين ان الروايات الاخرى لا تستبعد تجارة السلاح في المنطقة، لكنها لا تعترف بان ابناء عرسال يقومون بذلك من اجل دعم ابناء الثورة السورية. وقد جاء نفي الرسمي لكلام غصن حول وجود "القاعدة" في عرسال ليعزز هذه الرواية، ولو ان ثمة اعترافا ضمنيا بوجود شريحة اصولية في المنطقة.
ومشكلة الحدود مرشحة للتفاقم يوما بعد آخر، وهي مرتبطة بتدهور الوضع السوري وانتكاساته المتلاحقة، ما يجعلها ملفا حيويا مطروحا امام الحكومة والقوى الامنية التي تتذرع بعدم امتلاكها التجهيزات اللازمة وبافتقارها الى العديد المناسب. لكن معضلة الحكومة انها عاجزة عن اتخاذ قرار موحد حيال تشديد المراقبة على الحدود لانه سيف ذو حدين عليها وعلى سوريا. وكذلك فان من كان يطالب من المعارضة بالمراقبة الشديدة يمتنع اليوم عن ذلك. ولكل طرف اسبابه الموجبة، وجميعها ليست اسبابا لبنانية صرف.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك