بعد سنة من تفجّر الانتفاضات الشعبية في الوطن العربي، مغرباً ومشرقاً، يتبدى بوضوح كم أن «التغيير» صعب، ومكلف، وأن طريقه مليء بالألغام والعبوات الناسفة للأحلام.
لقد صاغ وجدان الشعب، في كل قطر عربي، الشعار الذي اكتسب قداسته بعدما غمرته دماء الشهداء: «الشعب يريد إسقاط النظام».. لكن الوجدان لا يكفي وحده لصياغة برنامج التغيير وتحديد المهام المطلوب إنجازها في الطريق إلى التغيير.
في حالات مشهودة: سقط النظام بأسرع ممّا توقع الشعب الذي ملأ الميادين مطالباً بإسقاطه... وكانت تلك مفاجأة صاعقة، تفرض مهمة نبيلة لم يجهّز شباب الميدان أنفسهم لإنجازها.
البعض يعتبر أن السقوط المبكر لهذا النظام أو ذاك كان عنواناً لخطة خبيثة هدفها إجهاض الانتفاضة بمطالبها الجذرية عن طريق الإيحاء بأن سقوط الرأس يعني «الانتصار»... ليتبيّن في ما بعد أن الرأس قد أُسقط بفعل فاعل لكي يُمنع الميدان من تحقيق إنجازه كاملاً، خصوصاً أن هذا «الفاعل» ـ سواء أكان محلياً أم أجنبياً أم مزيجاً منهما ـ يعرف أن «الرأس» ليس النظام بكامله، وأن «النظام» غالباً ما يكون مستعداً لأن يفتدي ذاته ـ كمؤسسة ـ برأسه، خصوصاً إذا ما كان قد استُهلك فعلاً... وبالتالي فإن «النظام» يستمر بقبعة عسكري، أو بتشكيلة سياسية مرتجلة، أو بائتلاف عشائري معزز بدعم مفتوح، كما في حالة اليمن.
بل لقد أثبتت التجارب التي مرّ بها الوطن العربي خلال العام الفائت أن «النظام» قد يكون مستعداً للتضحية بالوطن جميعاً وبدولته المركزية من أجل أن يبقى، وأن في «الخارج» مَن يشجعه على هذه المغامرة المدفوعة الثمن.
بل إن «الخارج» الذي ابتدع فأنشأ بعض الدول العربية مع وعيه بأنها لا تملك أسباب حياتها كان يشجع الانتفاضة حتى لو تأكد من أنها قد تنتهي بتقسيم «الدولة».
ثم إن بعض الأنظمة قد اندفع في مجابهة الانتفاضة ومحاولة كسرها بقوة السلاح، مع وعيه بأن ذلك قد يؤدي إلى انهيار الدولة وتفتيتها إلى مكوّناتها الأصلية..
ليس عذراً لشباب الانتفاضة أن يقولوا: لم نكن جاهزين لما بعد سقوط النظام.. لكن الواقع يشهد لهم أنهم قد تحلوا بشجاعة استثنائية وهم يصمدون في الميدان، فيتعارفون ويباشرون السعي إلى إقامة جبهة سياسية متماسكة ببرنامج مشترك لصياغة مستقبل يليق بتضحيات جيل أو جيلين من المقموعين والمحصية عليهم أنفاسهم، حتى لا يتحركوا ولا يتعارفوا ولا يتحاوروا حول رؤاهم المتعددة بحيث ينتهون إلى صياغة برنامج التغيير.
ولكنه ليس عدلاً بالمقابل أن يقال: .. ما دام شباب الانتفاضة لا يملكون تصوراً متكاملاً للنظام العتيد الذي يريدونه لمستقبل بلادهم، فلماذا اندفعوا في مغامرتهم إلى حد إسقاط النظام وإغراق البلاد في فوضى أمنية سيكون من السهل تحويلها إلى حرب أهلية؟!
كذلك فليس من العدل أن يقال: .. وما دام شباب الانتفاضة لا يدركون خطورة موقع بلادهم على خريطة المصالح الدولية، فلماذا قصّروا في حماية انتفاضتهم من إغراءات هذه المصالح وضغوطها؟ لماذا لم يتنبّهوا إلى التحولات في مواقف قوى سياسية مؤثرة كالإخوان المسلمين، الذين بات همّهم الأساسي طمأنة الإدارة الأميركية إلى أنهم قد تخلوا عن العنف وآمنوا ـ مع بداية القرن الحادي والعشرين ـ بالديموقراطية متخذين من النموذج الأميركي هادياً ومرشداً؟ وبالمقابل، فإن «السلفيين» قد اندفعوا إلى الأبعد والأقصى فأسقطوا فلسطين من خطابهم وطمأنوا إسرائيل إلى أنهم قد «جنحوا للسلم» وكفى الله المؤمنين شر القتال..
كان شباب الانتفاضة، ككل الثوار، ناقصي الخبرة ولا تجربة لهم ترشدهم إلى الألغام التي زُرعت في طريقهم، وكانوا حسني النية تجاه «الخارج» ربما بسبب احتياجهم إلى «الحماية» أو إلى «الرعاية» أو إلى «معاهدة عدم اعتداء» أقله في الفترة الأولى..
وها إن الثوار جميعاً ينتبهون، ربما بعد فوات الأوان، الى أن «الخارج» أقوى بكثير مما قدّروا، وأنه مستعد لأن يضحي «بأعز أصدقائه» من أهل سلطة الماضي من أجل حماية مصالحه في المستقبل.
ثم إن هذا «الخارج» سوف يستغل احتياجاتهم جميعاً، الاقتصادية بشكل خاص، من أجل أن يجبرهم على الحد من طموحاتهم إلى التغيير، وأن يكونوا «واقعيين»، فيكتفوا بإسقاط رأس النظام تمهيداً لأن ينخرطوا فيه فيبدّلوه من داخله. وأخطر «الخارج» عربي، أقله بالكوفية والعقال، وإن كان قد ربط مصير نظامه بالصديق الكبير الذي يحميه.. ولا عدو إلا شعبه!
الأخطر أن يصيب اليأس شباب الميدان فيرتضوا بأن تنتهي انتفاضتهم نصف ثورة، ونصف الثورة نقيضها كما يعلّمنا التاريخ.
إن التغيير إنجاز إنساني رائع، وبالتالي فهو مكلف، وصعب، ويحتاج إلى زمن، وإلى التعلم من التجربة، فليس هناك نموذج جاهز، ولا يمكن تكرار التجربة في بلدين تختلف ظروف كل منهما عن الآخر.
المهم مكافحة اليأس. المهم الصمود. المهم الإفادة من التجربة. المهم الحفاظ على الصفوف موحدة، خصوصاً أن ما بين الميدان والسلطة مسافة كافية لفضح الانتهازيين والمتسلقين وتجار الشعارات ومزوّري هوياتهم من أجل الوصول.
لقد كشف الميدان الأطراف جميعاً. وها هي مصر الشاهد والشهيد. لا «الإخوان» هم صنّاع الانتفاضة ولا الجيش هو حاميها، ولا «السلفيون» هم أمل المستقبل.
وسيتوجب على شباب الميدان، في كل عاصمة عربية، أن يتابعوا نضالهم من أجل تحقيق أهدافهم وسط الجمر والدم والنار.
إنهم آتون من البعيد، وليس من طريق إلا التجربة التي سوف تعلّمهم وتهديهم، ثم إن «الشعب» سوف يحميهم ويساعدهم على توحيد الجهد من أجل التغيير المنشود. المهم مكافحة اليأس وطرد الانتهازيين ومواصلة المسيرة في قلب الصعب.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك