المعيار في اللغة هو كل ما تقدّر به الأشياء، أي المقياس أو القاعدة. وهو في علم المنطق الآلة التي تهدف الى صوغ القواعد والنماذج الضرورية لتحديد القيم. وفي السياسة، هو مجموع الشروط الواجبة أو الألزامية، فكريا وأخلاقيا وأتّزانا، لكي يحوز من يتعاطى فن السياسة لقب "سياسي".
أستنادا الى ما تقدّم، يمكن طرح الأشكالية التالية: هل تتطابق مواصفات الذين يتولّون الشأن العام عندنا مع المعايير المدرجة في القاموس السياسي الدولي؟ أو، بكلام آخر، هل يوجد تجانس بين سياسيّنا وبين أبسط قواعد الممارسة السياسية المعروفة؟
أنّ البحث عن أجابة مقبولة في هذا المجال يستوجب العودة الى سلّم الصفات الواردة في السّير الذاتية، والى الخطّ البياني الذي يظهر المواقف وتطوّرها. كما ينبغي التنبّه الى الفارق الكبير بين رجل السياسة ورجل السلطة. فرجل السلطة يدين بالولاء للمرجع الذي عيّنه، ولا يستطيع فكّ ارتباطه بالظروف التي أوصلته الى ما هو عليه، فينفّذ نهجا يحدّده غيره بعيدا عن المصلحة العمومية والسياسة الملائمة لها. أمّا رجل السياسة فهو من طينة أخرى، ينتمي الى حزب أو تيّار أو حركة أو حيثية، ويلتزم بخط سياسي واضح المعالم، ويمارس العمل السياسي أستنادا الى تمتّعه برؤية أجمالية تنطلق من مبادئ ومثل، ولا يعترف الاّ بالوطن مرجعيّة وحيدة. ورجل السياسة لا يتمّ صنعه بقرار أو بفرض، بل يتربّى في حضن حالة سياسية ويتدرّج ليبلغ سنّ الرشد السياسي، فيتبوّأ بعدها المناصب بتراتبية تتناسب ومستواه.
أنّ ما يطالعنا به كلّ صباح من آراء ومواقف وتحليلات ومداخلات، تنضحها جرار رجال السياسة فتعبق بها أجواء خارطة الوطن، لدليل صارخ على كثافة الأنتاج وشقعة المنتجين. أنّ هذا الكمّ المتباين في مضمونه يعني في الشكل أنّ الديمقراطية في أوجها، وليس في ذلك من ضير. أمّا أذا انتقلنا الى النقد السياسي الموضوعي، فما ينبغي حذفه وأهماله من المضامين يفوق بمرّات ما يجب الأبقاء عليه. ومردّ ذلك الى الخروج السافر عن المعايير، وكأنّها لم تكن في الأساس أو أنّها موضوعة لتلزم الآخرين فقط. وأبرز الأخطاء في هذا الصدد التناقض، حيث يبدي السياسي رأيا في قضيّة معيّنة وما يلبث، في التصريح نفسه، أن يطلق رأيا مضادا لسابقه ومن دون أن يرفّ له جفن. ويتكرر الفعل ذاته في كلّ مرّة يصدر عن هذا "المرجع" موقف أو تصريح، ما يعني أنّ طلاقا قد وقع بينه وبين رزانة التفكير ودقّة النباهة، أي قاعدة الأتّزان العقلي اللائق. أمّا استخدام الكلام النّابي وقاموس الشتائم، فمردّه الى انعدام المواصفات الخلقية التي تفرض على اللسان قواعد العفّة واحترام انسانيّة الأنسان وتجنّب دائرة الأسفاف. وما رشق الآخرين بالتهم جزافا ومن دون دليل، سوى الجهل المطبق بمقياس المنطق القائم على الحجّة.
وبعد، كم ممّن يطلقون على أنفسهم الألقاب الرنّانة – كالزّعيم أو السياسي أو القائد.... – والذين يتحكّمون جورا بمسارات الأحداث، يمكن أن يعصى على غربال الأتلاف؟ وهل يسمح لهؤلاء بأن يغسلوا عقول الناس ليبقوا في أعينهم المثال الأعلى النموذجي؟ لو كان هناك شعب يقدر على حمل رفش، لزاد علو جبل النفايات وارتفعت بحدّة نسبة التلوّث في لبنان.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك