غرقت الأمة العربية في سبات عميق طوال أجيال من الزمن، وسجلت يقظة لافتة بوقوع تحوّل تاريخي في تونس، أعقبه تحوّل مماثل في مصر. والتحوّل المصري ما كان ليقف عند حدود مصر. فمصر هي الدولة العربية الكبرى والأكثر كثافة سكانياً، إذ أنها في تعداد السكّان تشكّل لا أقل من 35 إلى 40 في المئة من العالم العربي. لذا فإن ما يقع في مصر يستتبع بالضرورة أصداء وارتدادات محسوسة، إن لم تكن فاصلة، في أرجاء أخرى من دنيا العرب. هكذا كان عقب الثورة العربية في الآونة الأخيرة، فهي سرعان ما استحالت يقظة عربية شملت عدداً من الأقطار العربية، بما فيها ليبيا واليمن والبحرين والعراق وسوريا وأخيراً الأردن، وشهدت أقطار عربية أخرى تحرّكات شعبية ولو أنها في حجمها ومفاعيلها لم تبلغ مبلغ الثورة كما كان في تونس ومصر.
في ليبيا احتدم الاقتتال وبلغت حصيلته مبلغاً مأسوياً في ما سقط من ضحايا وما وقع من دمار وخراب. ولم يُحقق الشعب الليبي بعد مثل ما جنت تونس ومصر من ثمرات الثورة الإيجابية. وفضحت الأحداث الليبية المتمادية غياب الموقف العربي الضاغط، إذ لم ينطلق أي تحرّك عربي جامٍع في اية محاولة لوضع حدّ للمحنة المتمادية في ليبيا كما كان يفترض أن يحصل. ولعل محنة ليبيا الممضة كان لها فعل لاجم للتحركات في بلدان عربية أخرى، إذ أضحت الشعوب الأخرى تتهيب التورط في مثل الحال التي حلّت بليبيا.
واليمن كان لها نصيب مشهود من ظاهرة اليقظة العربية. فإذا بها تتعرض لأحداث واشتباكات متزايدة تحت لافتة المطالبة بالتغيير، إلا أن التعددية القائمة في المجتمع اليمني آلت للأسف الشديد إلى صدامات ارتدت بعضها رداءً فئوياً مدمراً أضحى يهدد المجتمع ومن ثم البلد في صميم وحدته. هذا ناهيك بالخسائر الجسيمة التي يتكبدها المجتمع اليمني بفعل الأحداث الجارية، والأحداث ما زالت تتواصل والمحنة تزدادا حدّة.
وفي البحرين أطلقت التحولات معالم الانقسام المذهبي الخطير، مما استدعى تدخل المملكة العربية السعودية عسكرياً لنصرة النظام القائم. وشكلت أحداث البحرين نذيراً لسائر دول الخليج التي استنفرت قواها تداركاً للأسوء.
وفي العراق، الذي كان مسرحاً للانقسامات الدامية منذ مدّة غير يسيرة، فإن اليقظة العربية حرّكت الخلافات والضغائن على وجه آل إلى صدامات مسلحة، ولكن الوضع عموماً بقي قابلاً للضبط.
وشهدت سوريا تظاهرات في بعض المدن سجّلت عدداً محدوداً من الضحايا في الحالات التي عمدت السلطة إلى قمع المتظاهرين. إلا أن الوضع هنا أيضاً لم يفلت من عقال الضبط وكذلك في الأردن.
والمسلسل قد لا يقف عند هذا الحدّ. فقد تحلّ ارتدادات اليقظة في أقطار عربية أخرى، وقد لا يسلم من تداعياتها في نهاية المطاف قطر من الأقطار العربية، اللهم باستثناء لبنان، حيث التعددية الفئوية كفيلة، على ما يبدو، بالحؤول دون تحولات جسيمة، إذ تعمد فئات من الشعب إلى تعطيل ما قد تبادر إليه فئات أخرى.
مع ذلك فإننا نعتقد أن واجب التحسّب يقضي بأن يسارع المسؤولون في لبنان إلى إطلاق حركة حوار وطني واسع حول الإصلاح المطلوب على الصعد كافة تداركاً للأسوأ وقطعاً للطريق أمام العابثين من خارج البلد ومن داخله. والجدير ذكره أن لبنان بحكم جواره الوثيق لسوريا وعمق التشابك والتداخل في المصالح والأوضاع بين القطرين الشقيقين، مرشح لأن يتفاعل على وجه مباشر وعميق مع أية تطورات قد تحلّ بالقطر السوري الشقيق. فالعزل بين لبنان وسوريا على هذا الصعيد سيكون متعذراً عملياً.
إذا كان لنا أن نقوّم ظاهرة اليقظة التي حلّت في العالم العربي، فإننا نسجّل أكثر من ملاحظة: فمن جهة نسجّل أن اليقظة لا يمكن منطلقاً إلاّ أن تكون ظاهرة إيجابية واعدة في أمة تنشد الحياة والرفعة والتقدّم. فالأمة العربية عاشت حقباً طويلة من الزمن في حال من السهاد والغفوة، حتى أن قادة الفكر فيها باتوا يخشون على مستقبلها لا بل وعلى قابليتها للحياة والبقاء. فالوضع الآسن بالنسبة إلى الأمم يعادل الموت. فجاءت اليقظة العربية، التي لا نزال نعيش تداعياتها، لتبعث الأمل في نفوس الكثيرين من قادة الأمة وأبنائها. فإنها عززت إيمان هؤلاء بإمكانات الأمة وطاقاتها، وأحيت في الأذهان والضمائر نفحة من الإيمان الوطيد. الأمة منفتحة على التغيير والمستقبل قد يحمل الكثير من الأمل بتغيرات تدفع بالأمة في وقت غير بعيد إلى مصاف الأمم الرائدة في العالم بإذن الله، والأمر يتوقف إلى حدّ بعيد على بروز قيادات منفتحة وتقدمية تأخذ بناصية الأمة إلى الغد الموعود.
من جهة أخرى، لا بد من التأكيد بديهياً على أن الأمل بمستقبل زاهر يرتبط إلى مدى بعيد باستعداد العرب للعمل القومي المشترك. فلا قيام للأمة إلا بوحدة صفوفها وتكامل مصالحها وتلاقي عناصرها عند خط واحد للعمل القومي الهادف على الصعد كافة. والسؤال الكبير هو: هل سيعي قادة العرب هذا الواقع وهل سيعملون بموجبه؟ المهم أن يدرك شباب الأمة هذه الحقيقة ويحاسبوا حكامهم على مدى الالتزام بموجباتها.
من جهة ثالثة، ينبغي أن ندرك أمراً بديهياً وهو أن المصير لا يقرر في لحظة، ولا حتى في لحظة يقظة، وإنما الإنجاز يكون مساراً متصلاً لا انقطاع فيه ولا نهاية له. علينا أن نخطط لمسار مديد سمته الأولى الاستمرار والانتظام. وعلينا من ثم التزام هذا المسار بتفاصيله في قولنا وعملنا، في فكرنا وأحلامنا، وفي حلنا وترحالنا، لا بل علينا أن نجعله همّنا وديدننا في كل الأوقات.
من جهة رابعة، إذا كانت سلبيات اليقظة قد طغت فعلياً لفترة ما على إيجابياتها، كما في ليبيا حيث المجازر البشرية يومية، فإن هذا ينبغي أن لا ينتقص من قيمة الظاهرة، بل ينبغي أن يحفزنا إلى تدارك السلبيات والعثرات والنواقص بعزيمة لا تهون.
ثم إن الأمل يبقى معقوداً على أن تعمّ اليقظة الأقطار العربية كافة بإيجابياتها دون سلبياتها التي لا بد من العمل على تلافيها.
ختاماً، في اعتقادنا أن اليقظة العربية جاءت لتذكّر العرب بأن أمتهم تزخر بالحيوية والإمكانات. يبقى أن يكون قادة الأمة على مستوى التحدي فيعبّئوا كل الطاقات والإمكانات في دفع الأمة وشعوبها قدماً إلى حيث تتبوأ المكانة المنشودة لها في أسرع ما يمكن بحيث تغدو، كما يروم أبناؤها، ينبوع عطاء حضاري وإنساني لا حدود له.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك