في الماضي كان تأليف الحكومات سبيلاً للخروج من أزمات تعانيها البلاد، فلماذا صار تشكيلها اليوم أزمة لا خروج منها حتى وإن تحولت أزمة حكم؟
الواقع ان الدستور عندما كان يمنح رئيس الجمهورية صلاحية تعيين الوزراء واختيار رئيس من بينهم كان هو السلطة الاجرائية ورئيس الحكومة والوزراء مجرد معاونين له ولم تكن الحكومة تشكل خط الدفاع الاول عنه لانه هو الذي كان يتحمل أمام النواب والناس مسؤولية تشكيل الحكومة، وكان له ايضا صلاحية اقالة الحكومة والوزراء ساعة يرى ذلك ضرورياً. وعندما نزع منه دستور الطائف هذه الصلاحيات بات عليه ان يجري استشارات نيابية ملزمة لتسمية رئيس للحكومة بحيث تقع مسؤولية اختياره على الاكثرية النيابية التي سمَّته وليس على رئيس الجمهورية الذي كان يختار احياناً رئيسا للحكومة لا يرضي اكثرية النواب ولا طائفته فيقع الخلاف بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة وينتهي احياناً باستقالة الحكومة أو اقالتها فيترك ذلك تداعيات سياسية ومذهبية. وعندما اصبحت تسمية رئيس الحكومة من مسؤولية النواب وعملية تأليفها مسؤولية مشتركة بين الرئيس المكلف ورئيس الجمهورية والاحزاب والكتل النيابية ولم يعد من حق رئيس الجمهورية وحده اقالة الحكومة ساعة يرى ذلك سبيلاً للخروج من الازمة، اخذت عملية التشكيل تواجه عراقيل وصعوبات يحتاج تذليلها الى وقت غير محدد بمهلة زمنية.
وكان رئيس الوزراء المكلف بعد أن يجري اتصالاته ومشاوراته مع الاحزاب والكتل ويقف على مطالبها يؤلف الحكومة التي ترضي الاكثرية النيابية وتضمن ثقتها، واحيانا لا ترضي رئيس الجمهورية فيضطر الى الاعتذار عن عدم التأليف ليفسح في المجال لاجراء استشارات نيابية جديدة لتسمية سواه. وكانت الاحزاب او الكتل النيابية التي لا تكون راضية عن تمثيلها في الحكومة بالنسبة الى حصتها او بالنسبة الى الحقائب فانها تقرر برغم ذلك منح الثقة كونها تشكل جزءا من الاكثرية، أو تقرر حجب الثقة أو الاقتناع عن التصويت.
وعندما صار السلاح خارج الدولة بات يشكل وزنا في عملية التأليف ويحسب له رئيس الوزراء المكلف حسابا، وهو ما كان يحصل زمن وجود السلاح الفلسطيني في لبنان اذ كان له تأثيره في الانتخابات الرئاسية والنيابية وفي تشكيل الحكومات. اما في زمن الوصاية السورية فلم يعد ثمة مشكلة لا في انتخابات رئاسة الجمهورية ولا في الانتخابات النيابية ولا عند تشكيل الحكومات لان القرار كان في يد الوصاية ولا اعتراض عليه يتجاوز حدود الكلام.
وعندما نجحت قوى 8 آذار في ان تنقل الاكثرية من قوى 14 آذار اليها لم تعد "الديموقراطية التوافقية" التي كانت تصر على تطبيقها تلائمها، بل صارت الديموقراطية العددية هي المقبولة والمطلوبة توصلا الى تشكيل حكومة منها تكون منسجمة ومتجانسة وصالحة للعمل والانتاج. لكن الرئيس نجيب ميقاتي الذي سمته الاكثرية الجديدة لتشكيل مثل هذه الحكومة وجد ان الظروف الدقيقة التي تمر بها البلاد والتغييرات التي تعصف بدول المنطقة لا تسمح بذلك وانه لا بد من تشكيل حكومة وحدة وطنية تستطيع مواجهة التحديات والاستحقاقات المهمة ولا سيما منها المالية، واذا تعذر ذلك فحكومة من خارج مجلس النواب مطعمة بسياسيين مستقلين او وسطيين وتكنوفراط. لكن الاكثرية الجديدة وبالاخص المتشددين فيها اصروا على تشكيل حكومة من هذه الاكثرية ولا مانع ان تكون مطعمة بعدد محدود من التكنوقراط او المستقلين بعدما بات متعذرا تشكيل حكومة وحدة وطنية بشروط قوى 14 آذار والا فانها تحجب الثقة عن حكومة من خارج مجلس النواب.
وهكذا وضعت الاكثرية الجديدة الرئيس ميقاتي في مأزق، فلا هو يستطيع تشيكل حكومة من الاكثرية وحدها لانها ستواجه معارضة شديدة من قوى 14 آذار، ولا هو يستطيع تشكيل حكومة من خارج مجلس النواب لئلا تتعرض لحجب الثقة فتسقط داخل المجلس او تستقيل قبل ان تمثل امامه.
وتردد ان سوريا لن تتدخل لتسهيل عملية التأليف ما لم يتم ترسيم علاقاتها بالسعودية وبالولايات المتحدة الاميركية كي تطمئن الى مصير وضعها الداخلي، ولكي يصير في الامكان تشيكل حكومة وحدة وطنية او حكومة من خارج مجلس النواب.
وفي انتظار ذلك يجد الرئيس ميقاتي نفسه أمام مشكلة جمع الذئب والغنم او عليه ان لا صحيح يكسر ولا مكسور يأكل، فصار التأجيل وإعطاء الوقت هو الحل بل هو الذي كلف تشكيل الحكومة... حتى اصيبت الدولة من طول الوقت بالانحلال.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك