عندما بدأت رياح التغيير تضرب الأنظمة العربية، بدءا بمصر وتونس، كان يسود الأوساط اللبنانية المتابعة اقتناع بأنّ الزلزال قد يهزّ المنطقة كلها إلّا لبنان. فهو دفع الضريبة قبل سواه، وأمضى عقودا في الصراعات الأهلية. ومنذ خروج سوريا العسكري في 25 نيسان 2005، وهو يتلمّس الطريق، ولَو بصعوبة، الى إدارة شؤونه من دون رعاية خارجية.
لكنّ القراءة تغيّرت، وتباطؤ "الربيع العربي" في سوريا فتح المجال لكثير من التوقعات لدى الأوساط الديبلوماسية المعنية بالشأن اللبناني. وثمة ترقّب حثيث للانعكاسات المتزايدة للتطورات السورية على الوضع في لبنان، أمنيا وسياسيا. وهناك من بدأ يتحدث عن مواجهة قيد الوقوع بين النظام السوري وأعدائه على الساحة اللبنانية، وهي ستكون مواجهة بالواسطة، من خلال الطرفين المتصارعين في لبنان.
المواجهة، هي خيار النظام
في لبنان
وتزداد المخاوف من هذا السيناريو، في موازاة نموّ المخاوف في "أرض المنشأ" من الغَرق في مواجهة طويلة تتخذ طابعا دمويا. وهذا ما تؤشّر إليه المجريات في الأسابيع الأخيرة من المشهد السوري. فالنظام بدا مصمما على لَعب كل الأوراق التي يملكها دفاعا عن وجوده، حتى ورقة القمع. وفي المقابل، يخوض أعداؤه حربا لا هوادة فيها لإسقاطه، ولو وصلوا فيها الى حدود الانتحار أمام آلة السلطة في الشارع. وبات مرجّحا دخول سوريا في وضع يستحيل فيه أن ينتصر فيه النظام، ويصعب كثيرا أن تطيحه المعارضة قريبا. وهذا يذكّر بالنموذج الليبي. لكن في سوريا تعقيدات جيو- سياسية أعمق بكثير ممّا في ليبيا.
في لبنان، الخوف من العدوى واقعي. ومنذ اللحظة الأولى، كانت الأضواء مسلطة على السؤال الآتي: ماذا سيفعل المحور السوري - الإيراني في لبنان، عندما يواجه استحقاق تعرّضه لضربة قاتلة في سوريا ؟ ويمكن طرح السؤال في صيغة أخرى: ماذا سيفعل "حزب الله" لحماية نفسه عندما يكون في صدد فقدان الجسر القوي الذي يربطه بإيران ؟ هل يعمل لتعويض خسارته لسوريا احتياطا بالسيطرة على لبنان أم يقرّر الذهاب الى خيار مَحض لبناني ؟ مع ما يعنيه ذلك من تَخلٍّ عن السلاح ضمن تسوية تاريخية يجري إقرارها في حوار لبناني - لبناني.
"الحزب" والعدوى السورية
لم يتضح خيار "الحزب"، ومعظم المحللين توقعوا منه ان يستجيب لمنطق الواقعية السياسية، فيذهب الى "استيعاب" المرحلة. لكن المؤشرات رجّحت التدرّج نحو خيار المواجهة، خصوصا ان الضغوط مترافقة مع انطلاق عمل المحكمة الدولية. وخيار "القوة" تمّت ترجمته سياسيا أيضا، من خلال إسقاط حكومة الرئيس سعد الحريري ومحاولة استباق أيّ طارئ.
إلّا ان هناك أيضا ترجمة ميدانية لهذا الخيار. فالسوريون بادروا الى اتهام "تيار المستقبل" بتهريب الأسلحة الى الداخل السوري، ليضعوا الحجر الأساس للتداخل بين أزمتين وساحتين. وعلى رغم لجوء الآلاف من المعارضين السوريين الى الشمال اللبناني، وتجاوز الجيش السوري قواعد الحدود في مطاردة هؤلاء، بقي الدعم الذي تقدمه البيئة الشمالية الحاضنة للاجئين إنسانيا في الدرجة الأولى. لكن الوضع الأمني اهتزّ في طرابلس وعكار، في موازاة أزمة النازحين من سوريا، ولم يعد الى استقراره إلّا بعد تراجع هذه الأزمة.
وفي ظلّ تحليلات ترى ان أزمة الرهائن الإستونيين والاعتداءات على الـ "يونيفيل" ليست سوى رسائل تتعلق بالأزمة السورية، جاءت المواجهات الأخيرة مع المتظاهرين ضد النظام في الحمرا وسواها، والتصعيد السياسي والشعبي من جانب "تيار المستقبل" والعديد من القوى الفاعلة على الساحة السنيّة، بمثابة علامات إنذار الى احتمال انتقال الشرارة من سوريا الى الداخل اللبناني.
ويخشى المراقبون مواجهة جديّة، قد لا تكون بعيدة، بين النظام السوري وأعدائه على الساحة اللبنانية. وهذه المواجهة تزداد الهواجس منها، في موازاة غَرق الوضع السوري الداخلي في مستنقع يصعب الخروج منه. ودرجة الاحتقان السياسي والمذهبي السائد، تفتح المجال لتحوّلات قد لا تكون محسوبة، ويذهب اليها كل طرف تحت وطأة الشعور بالاستهداف، في مغامرة يخرج منها احد الطرفين سالما، فيما الآخر قد تكون هزيمته "نهائية".
ومن أجل ذلك، تبدو المخاوف من "سَوْرَنة" الوضع اللبناني جديّة وداهمة. فالنظام يضعف في سوريا، ويأمل في تعويض القوة في لبنان. وفي المقابل، يشعر أعداؤه انهم للمرة الأولى أمام فرصة إسقاطه، في سوريا... وتاليا في لبنان! والطرفان يخوضان المعركة حتى الرمق الأخير.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك