كلما طالت الأزمة السورية يشعر اللبنانيون بالحرج من عدم تضامنهم مع مأساة الشعب السوري . لبنان هو البلد العربي الوحيد الذي له تاريخ طويل بالحريات والذي كان دائماً يتحرك لنصرة ودعم القضايا الوطنية والإنسانية خاصة في العالم العربي، يجد نفسه في حال من الكبت والمرارة من سياسة ضبط النفس وعدم التحرك إزاء القضايا العربية الراهنة . ففي المسألة السورية يؤكد اللبنانيون بعد تجربتهم القاسية عدم التدخل في الشؤون الداخلية السورية وعدم ممارسة أي نشاط أو موقف يعرّض هذه العلاقات إلى التوتر . لكنهم لا يطيقون اليوم رؤية الجانب الإنساني من الأزمة من دون أن يكون لهم دور في المساعدة حتى في الجانب الإنساني .
لكن هذا الموقف شبه المحايد تغيّر تدريجياً ونسبياً من خلال التأييد الذي أعلنه الأمين العام ل”حزب الله” السيد حسن نصر الله للنظام في سوريا والموقف الذي أطلقه رئيس “حزب المستقبل” رئيس الحكومة السابق سعد الحريري مؤخراً وفيه تأييد لمطالب الشعب السوري واستنكار لحصار “حماة” والأعمال العسكرية ضدها . أما وسائل الإعلام اللبنانية فهي لم تكن محايدة أصلاً وهي ترددت في التعامل مع الحدث السوري سلباً وإيجاباً .
يظهر أن استمرار الأزمة وتزايد العنف يضغط على مواقف الأطراف اللبنانيين الذين يرتبطون بعلاقات وثيقة بالنسيج الاجتماعي السوري ويتأثرون فعلياً بمسار الأزمة حيال جمهورهم، كما أن الحسابات السياسية تتأثر كذلك في ما سوف ينجلي عليه الوضع السوري وانعكاسات ذلك على الأوضاع في لبنان، فمن البديهي أن “حزب الله” وحلفاءه ينظرون إلى التطورات على أنها جزء من الصراع الإقليمي الشامل وإن إضعاف النظام في سوريا هو تهديد لموقع الحزب في المعادلة . أما الجهة اللبنانية المقابلة والتي تصف نفسها بالمعارضة اليوم لأنها خرجت من السلطة مع تأليف الحكومة الجديدة، فهي تعتقد أن تغيير الوضع في سوريا هو مقدمة لتغيير التوازن السياسي اللبناني وعودتها إلى سدّة الحكم وغلبة مشروعها وخياراتها على جميع المستويات .
صحيح أن الوضع السوري الآن لا يثير عاصفة من السجال أو من الانقسام ومن الجدل بين اللبنانيين، لكن هذا الركود أو الهدوء يؤسس في العمق لعاصفة مقبلة عند وضوح الرؤية ومعرفة المصير النهائي للأزمة هناك، ذلك أن العلاقات اللبنانية السورية عضوية بين البلدين رغم كل ما يُقال عن الاستقلال والسيادة وعدم التدخل . إن أي مناخ سياسي يسود هنا أو هناك ينعكس مباشرة على الواقع الرسمي والشعبي وهذا أمر معروف تاريخياً، لكن المستجد هو حجم التداخل العميق بين قضايا ومشكلات راهنة مثل مستقبل الأمن على الحدود اللبنانية تجاه الكيان الصهيوني وبين سوريا ولبنان، ومسألة المحكمة الدولية والإجراءات التي يمكن أن يمارسها “المجتمع” الدولي وتطاول لبنان وسوريا، كما أن العلاقات الاقتصادية ستكون موضع جدل وكذلك الاتفاقات السابقة التي تمت بعد الطائف في “معاهدة الأخوة والتعاون والتنسيق” .
لكن ذلك كله يفترض أن الأمور قد تتجه إلى انتهاء الأزمة بشكل أو بآخر ووقف العنف، أما إذا تعمقت الأزمة وذهبت باتجاه المزيد من الفوضى ومن النزاعات الأهلية، فإن الساحة اللبنانية معرّضة إلى تداعيات ليست قليلة لا سيّما وأن الصلات الإنسانية والاجتماعية كبيرة وهناك توتر بين المجموعات اللبنانية هو نفسه التوتر الذي يمكن أن ينشأ في سوريا أو يتوسع وقد بدأت بعض مظاهره تتبلور في المواقف الصادرة عن الجهات السياسية في البلدين .
يعتقد البعض أن الظرف الآن ملائم لفصل الأوضاع اللبنانية عن سوريا وتحقيق ما يمكن اعتباره استقلالاً بالشؤون الداخلية لأن سوريا منشغلة بمشكلاتها . لكن هذا التصور غير دقيق بالنظر إلى أن القوى السياسية اللبنانية جميعها الفاعلة في القرار اللبناني تراهن ضمناً على ما سيؤول اليه الوضع السوري . ينتظر “حزب الله” وحلفاؤه حسم الموقف لمصلحة النظام واستعادة سيطرته على الأوضاع، وينتظر خصومه التغيير أيّاً كان شكل هذا التغيير لأنه لن يبقي النظام على حاله وعلى دوره في لبنان .
لكن الأبعد من ذلك كله هو التطورات الإقليمية الأوسع التي يمكن أن تحصل بعد وضوح التوازنات وترتيب بعض الملفات كفلسطين والعراق وما يمكن أن يكون عليه الموقف الأمريكي الصهيوني من سعي إلى قطف ثمار هذا التغييّر في العالم العربي وانهيار النظام السياسي العربي الرسمي قبل تبلور البديل منه . إنها مرحلة مفصلية بمنزلة صياغة جديدة لمستقبل المنطقة .
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك