كتبت ليا القزي في "الاخبار":
طلب رئيس الحكومة نجيب ميقاتي من وزير المالية سحب موضوع «الدولار الجمركي» من التداول، وتأجيل النقاش به إلى ما بعد رأس السنة. التأجيل أتى بعد ضغوط مارسها التجار وأصحاب المؤسّسات السياحية، حتى لا ترتفع الأسعار بشكل كبير يؤدّي إلى تراجع الاستهلاك في فترة الأعياد. بين النقاش والتأجيل ودراسة سعر الصرف للرسوم الجمركية وتقديرات الإيرادات، يتم التعامل مع الأمر من منطلق تصحيح مؤشرات مالية تحمي أصحاب المصالح، وتُدمّر ما تبقّى من قدرات المجتمع.
الفطر، الذرة، التونا... وغيرها من المُعلّبات أصابها في الأيام الماضية غلاءٌ ملحوظ غير مُرتبطٍ فقط بارتفاع سعر صرف الدولار في السوق. فالحديث عن تعديل سعر «الدولار الجمركي» لزيادة الإيرادات العامة ربطاً بالنفقات المرتقبة في القطاع العام دفع التجّار إلى استغلال النقاش وتحقيق أرباحٍ غير مشروعة. المواد الغذائية، هي عيّنة عن النتائج التي سيتسبّب بها الدولار الجمركي، وآثاره على المجتمع.
يقول اقتصاديون إنّ السير بقرار تعديل الدولار الجمركي، بمعزلٍ عن خطة اقتصادية متكاملة، سيحفّز التضخّم المُفرط المصحوب بركود اقتصادي بما يترتب على ذلك من نتائج في زيادة الفقر والبطالة والهجرة. كلامهم يعني انعدام أي إمكانية للنمو، وغلاء سيُصيب كلّ القطاعات والسلع. فالمسؤولون في الدولة حين يُفكّروا بـ«حلول»، تكون النتيجة المزيد من إفقار المجتمع وتدمير أي إمكانية لنهوضه.
لحوم، أسماك، ألبان، عسل، أشجار، نباتات، خضار، فواكه، بن، شاي، حبوب، نشاء، شعير، سكر، مشروبات، تبغ، منتجات صناعية، أدوية، سيارات وتوابعها، قطن، صوف، سجاد، ألبسة، آلات كهربائية، لوازم المستشفيات، أثاث... وسواها من المواد المُستوردة التي تُدفع عليها رسوم جمركية. فعلى سبيل المثال، زيادة سعر الشعير المُستخدم لتغذية الدواجن في لبنان، سيُعطي حجّة لكارتيل الدواجن لرفع أسعار الدجاج والقصبة والبيض وغيرها من السلع، وتحميل الأعباء للمستهلكين. المستشفيات الخاصة التي سترتفع كلفة تجهيزها، ستُطلق مرحلة جديدة من الابتزاز لزيادة تعرفاتها والمستحقات التي تحصل عليها من وزارة الصحة، تحت تهديد عدم استقبال المرضى. وارتفاع التكاليف المعيشية، سيدفع كلّ صاحب عمل إلى زيادة أسعار المواد والسلع والخدمات التي يُقدّمها، لتعويض الفارق... الدولار الجمركي سيتحوّل إلى ضريبة غير مباشرة يدفع ثمنها كلّ السكان، ولن يقدر على تحمّلها أبناء الطبقات الفقيرة والمتوسطة (سابقاً).
السؤال «في البدء يجب أن يكون عن السبب الذي يستدعي وجود سعر صرف خاص للجمارك؟»، يقول وزير المالية السابق جورج قرم. يعتبر الموضوع «شواذاً»، في بلدٍ يسمح «لأصحاب الذوات، مثلاً، باستيراد اليخوت من دون دفع رسوم جمركية، ويُمنع فيه إقرار ضرائب على الثروة. منذ التسعينيات ونحن نعيش في ظلّ نظام خالٍ، تقريباً، من الضرائب». وجود سعر صرف جديد، في اقتصاد منهار، وبغياب الجهات الرقابية الفاعلة، «بالتأكيد سيؤثّر في كلّ الاستهلاك».
خلال اجتماع لجنة المال والموازنة النيابية، التي خُصّصت لمناقشة تمويل «المساعدة الاجتماعية» للقطاع العام، أبلغ وزير المالية يوسف خليل النواب بأنّ «تأثير الدولار الجمركي لن يبلغ أكثر من 5% من قيمة السلعة». وأضاف بأنّ «المالية» أنجزت دراستها بتحصيل مداخيل إلى الخزينة العامة «بقيمة 12 ألف مليار ليرة تقريباً، إذا اعتُمد سعر صرف يبلغ 14 ألف ليرة». التقديرات التي قدّمها خليل غير أكيدة لسببين رئيسيين. أولاً، لم يُتّفق بعد على سعر الصرف للدولار الجمركي، بوجود سيناريوهات عديدة وضعها خليل. يقول أحد نواب لجنة المال والموازنة، إنّ وزير المالية «تارةً يذكر سعر صرف 14 ألف ليرة، وطوراً يقول إنّه سيُعتمد سعر منصة صيرفة الأقرب إلى سعر الصرف في السوق الحرّة». ثانياً، هناك شكّ بأن تكون إيرادات الدولار الجمركي مرتفعة. ففي حديث سابق مع «الأخبار»، يلفت الخبير الاقتصادي، ومستشار رئيس الحكومة نجيب ميقاتي الاقتصادي، سمير الضاهر النظر إلى تراجع الاستيراد، «بكم يجب أن يُحدّد الدولار الجمركي حتّى تنتج منه إيرادات تُعوّض هذا التراجع في الاستيراد؟ إيرادات الدولار الجمركي لن تكون عالية وهي ليست المدخل الأساسي لزيادة مداخيل الدولة، بل بإمكان السلطة التفكير بزيادة الرسوم على العقارات، مبيعاً وتسجيلاً، لأنّها ما زالت ثابتة ومرتفعة» («الأخبار» عدد 18 آب).
الدولار الجمركي ليس اختراعاً ليوسف خليل، فبعد أن «افتتح» النقاش حوله مدير الواردات في وزارة المال لؤي الحاج شحادة في تشرين الأول عام 2020، عاد حاكم مصرف لبنان رياض سلامة لـ«يفرضه» على طاولة وزير المالية السابق، غازي وزني، ثمّ يرثه خليل. وكان من المفترض أن تُعقد أمس جلسة جديدة للجنة المال والموازنة، يُناقش خلالها الدولار الجمركي. أُلغيت الجلسة وتقرّر سحب الموضوع من التداول إلى بداية السنة المقبلة، «بعد ضغوط مارستها المؤسسات السياحية ونقابة مستوردي المواد الغذائية، مع رئيس الحكومة». التوقّف عن مناقشة «الدولار الجمركي» يُقدّم بحجّة القيام بالمزيد من الدراسات حول السلع التي يجب زيادة الرسوم الجمركية عليها، وتلك التي سيتم استثناؤها. وفي هذا الإطار، يقول رئيس نقابة مستوردي المواد الغذائية، هاني بحصلي إنّهم كنقابة «طالبنا وزير الاقتصاد، ودولة الرئيس ميقاتي، بدراسة الموضوع جيداً قبل إقراره. فخلافاً لما يُشاع، قسم كبير من المواد الغذائية تُدفع عليها رسوم جمركية تصل إلى 35%، أما المواد المعفية فتدفع رسم نوعي 3%». يُضيف بحصلي إنّه اقتصادياً «لا يُمكن الحديث عن دولة لا تفرض ضرائب، ولكن هذه ليست الطريقة».
المشكلة لدى التجار، وتحديداً المواد الغذائية، هي بحسب مصادر متابعة «تنقسم إلى شقّين: خوفهم من انعكاس الغلاء على انخفاض الاستهلاك. والنقطة الثانية هي حماية أرباحهم ومصالح الوكالات التجارية التي يملكونها». أما بالنسبة إلى جمعية الصناعيين، فيعتبر نائب رئيس الجمعية زياد بكداش أنّ «فرض دولار جمركي قد يصل إلى 18 ألف ليرة، يؤدّي إلى توسيع نطاق عمل السوق الموازية: البضائع المُهربة، والشركات التي تُقدّم فواتير مخفضّة، أو باسم شركات وهمية». ما طالبت به جمعية الصناعيين، بحسب بكداش، «ضبط السوق الموازية قبل زيادة الدولار الجمركي، وأن تكون السياسة الضريبية جزء من مشروع متكامل».
الهدف من وجود رسوم جمركية مرتفعة، هو بحسب وزير الاقتصاد السابق منصور بطيش «تأمين إيرادات للدولة، وفرض ضريبة على المواد المستوردة غير الأساسية والتي يوجد لها بديل محلّي، لتشجيع الصناعة والإنتاج المحلّي». يؤيد بطيش زيادة الرسوم الجمركية، «فحالياً الأغنياء هم المستفيدون من تدنّي الرسوم الجمركية على الاستيراد، فيتمكنون من شراء المواد التي يحتاجون إليها من دون دفع رسوم عالية. ولكن يجب أن يتمّ التحديد بشكل مُفصّل أي أنواع تُفرض عليها ضرائب، مثلاً موديلات مُعينة من السيارات، الغالية والتي تستهلك الكثير من البنزين...». يوضح بطيش أنّ الرسوم الجمركية بحاجة إلى أن تكون «ضمن إطار سياسة اقتصادية، مالية، اجتماعية متكاملة، فالأساس ليس فقط تعافياً مالياً، بل تعافياً اجتماعياً أيضاً».
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك