كتبت راغدة درغام في "النهار العربي":
تزهو أوروبا بعباءتها الإيرانية وهي تتمختر أمام رئيس أميركي، جعل من نفسه رهينة أوروبية تحت راية رصّ صفوف حلف شمال الأطلسي (ناتو)، أمنياً، وبموجب رؤية استئناف الشراكة السياسية عبر - الأطلسية للتصدّي للتحدّيات الكبرى، كالصين. جو بايدن سلّم أمره الى قيادات أوروبية متبعثرة ومبعثرة، وبات هذا الرئيس الأميركي مُلحَقاً لأوروبا في تحوّل غير اعتيادي في العلاقات الأميركية - الأوروبية التاريخية، حين كانت الولايات المتحدة في القيادة.
قد تكون هذه محطّة عابرة في العلاقات الأميركية - الأوروبية البعيدة المدى، لأن من الصعب التصوّر أن تجلس الولايات المتحدة الأميركية في المقعد الخلفي لعربة تقودها أوروبا المتشتِّتة في اقتصادها وسياساتها وثرواتها وطاقاتها البشرية ونقص كفاءاتها على المستويات كافة. البوصلة الأوروبية أضاعت القِيَم التي زعمتها، وقد وجدت في علاقاتها الإيرانية ذخيرةً للتموضع مع إدارة بايدن، فقرّرت أن من مصلحتها الانصياع لإملاءات الجمهورية الإسلامية الإيرانية، من رئيسها الى حرسها الثوري الذي يدمِّر السيادة والكرامة الإنسانية في بلاد زعمت أوروبا أنها صديقة لها، وفي مقدمتها لبنان.
خطورة هذه المواقف الأوروبية المراوغة تستدعي تدخّل الفاتيكان بصورة استثنائية، من أجل وقف النزيف المروّع إنسانياً وقضائياً وسياسياً وحكومياً وسيادياً للبنان الذي سقط في قبضة الأيدي الإيرانية التي تُقبِّلها القيادات الأوروبية. ذلك أن الفاتيكان وحده هو القادر على التأثير في الدول الأوروبية ومع الرئيس جو بايدن، وحتى مع روسيا والدول العربية وداخل الساحة اللبنانية لانتشال لبنان من مخالب الفتك الإيراني به، بحماية روسية وصينية وأميركية وأوروبية، صيانة للمفاوضات النووية مع طهران.
واضح أن الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن - الولايات المتحدة والصين وروسيا وبريطانيا وفرنسا - زائداً ألمانيا، خضعت كليّاً لشروط الجمهورية الإسلامية الإيرانية الرافضة لأي حديث عن السلوك الإيراني الإقليمي في مفاوضات فيينا الرامية الى إحياء الاتفاقية النووية JCPOA. ما زالت الدول الأوروبية تأمل إقناع القيادات الإيرانية بالموافقة على بحث الصواريخ البعيدة المدى في فيينا، وليس الصواريخ القريبة والمتوسطة المدى التي لا تأبه بها القيادات الأوروبية. لكن ليس في أذهان القيادات الأوروبية الإصرار على أي طرح للسلوك الإيراني الإقليمي، مهما قضم من سيادة أو دمّر من بلاد.
الازدواجية الأخلاقية للقيادات الأوروبية مذهلة ومكشوفة في لبنان، بما فيها من مزاعم المواقف العلنية نحو وكيل إيران في لبنان، "حزب الله". ففي نهاية المطاف، طهران هي العنوان الأساسي والرئيسي لاستيلاء "حزب الله" على كامل مفاصل الدولة، ومصادرة الحكومة، وتطويق القضاء. وكل ما تدّعيه القيادات الأوروبية من اهتمام أو دعم إنما هو كذبة سياسية ما دامت ترضخ وتُرضِخ واشنطن لإملاءات طهران التفاوضية وابتزازاتها الرافضة قطعاً أي ربط بين مباحثات فيينا النووية والسياسات الإيرانية الإقليمية.
فعليّاً وعلى الأرض، أوروبا تعهّدت للجمهورية الإسلامية الإيرانية بأنها لا هي ولا إدارة بايدن في وارد التضحية بالأولوية النووية، وأن مواقفها من السياسات الإيرانية الإقليمية لن تتعدّى وصفها بـ"الخبيثة"، ولن تقف في وجهها ما دامت المفاوضات النووية قائمة. بكلام آخر، الصفقة ليست نووية حصراً، بل هي إقليمية بامتياز، ذلك أنه ما دامت المفاوضات النووية مستمرة ـ ولو طالت لسنوات ـ لن تتدخّل القيادات الأوروبية والبايدانية في المشروع الإيراني الإقليمي مهما كان ومهما كلّف، لأنها باتت طوعاً رهينة الابتزاز الإيراني.
إدارة بايدن وافقت على بدء المحادثات مع إيران في فيينا في 29 تشرين الثاني، ما قد يؤدي الى إحياء الاتفاقية النووية JCPOA قبل نهاية السنة، ويكون بمثابة هدية وداع للمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل الحريصة كل الحرص على إرضاء الجمهورية الإسلامية الإيرانية لإتمام الصفقة. قد تكون المفاوضات سريعة، لأن طهران في حاجة الى رفع العقوبات عنها وأوروبا مستعجلة للاستفادة من رفع العقوبات. وقد تكون عسيرة فتستغرق وقتاً أكثر مما يتمناه الرئيس بايدن وفريقه. ولأنه في عجلة، قد يقدّم جو بايدن المزيد من التنازلات بغمزة تشجيع من أنجيلا ميركل الراغبة في تأبّط هذا الإنجاز لدى مغادرتها منصبها مع نهاية السنة.
السيّد بايدن بحث مسألة إيران مع نظرائه الأوروبيين في روما وفي غلاسكو خلال الأسبوعين الماضيين، تحت تأثير تطوّرين مهمّين هما: أولاً، نتائج الانتخابات المحلية الأميركية التي بعثت برسالة استياء الى الحزب الديموقراطي والرئيس جو بايدن، الأمر الذي أيقظ إدارة بايدن الى ضرورة التركيز على الساحة الداخلية. وبالتالي، قررت هذه الإدارة المغرومة أصلاً بأوروبا أن الوقت حان لإغلاق صفحة العداء التي فتحها الرئيس الأسبق دونالد ترامب مع أوروبا، وأن من الأسهل لها الانصياع للضغوط الأوروبية بدلاً من فتح جبهة مستقلّة مع إيران. وثانياً، تؤمن إدارة بايدن بأن التوصّل الى اتفاقية مع إيران سيسجّل لها نجاحاً في السياسة الخارجية يغطّي على فشلها في كيفية الانسحاب من أفغانستان؛ وأن ما يحدث على صعيد السياسات الخارجية من شأنه أن يلحق الضرر الكبير بالرئيس.
وبسبب ما تفيد به الأجواء الأميركية، هناك استياء، لا يقتصر على الجمهوريين بل يشمل الديموقراطيين، من افتقاد جو بايدن الفكر الاستراتيجي ومبدأ المواقف الصارمة، واكتفائه بدلاً بالخطوات التكتيكية. هناك قلق من عدم امتلاك جو بايدن رأياً خاصاً به وبتأثره بسرعة بآخر ما يسمعه، وهذا واضح من وقوعه تحت الضغوط الأوروبية. كل هذا يؤشّر الى وجود صراع جدّي داخل القيادة الأميركية التي يرى بعضها أن انصياع بايدن للضغوط الأوروبية إنما يقوّي اليد الإيرانية في التفاوض نووياً، وفي فرض الأمر الواقع إقليمياً، وهذا يعني أن أميركا هي الخاسرة، وأن إيران تقع في موقف الرّابح - الرابح، نووياً وإقليمياً.
استرضاء إدارة بايدن إيران واعتمادها إرضاء الأوروبيين لا يشكّلان سياسة policy. الإسراع الى إقفال ملف إيران بلا رؤية ولا استراتيجية مع غض النظر، عمليّاً، عن إجراءات إيران الإقليمية، إنما يشكّل سياسة خطيرة ينوي الأوروبيون التملّص من عواقبها ومسؤوليتها لتكون واشنطن هي المسؤولة. فأوروبا أرادت تحويل المشكلة الى أميركية - إيرانية، لأنها تعي أنها مجموعة دول عاجزة وضعيفة، وجدت قوتها أخيراً في قدرتها على الضغط على الرئيس جو بايدن وإدارته.
هناك في واشنطن من بدأ بمقاومة الهجمة الأوروبية لمصلحة إيران التي تستغل البايدنية، وتضرب المصالح الأميركية، وتعطي طهران تأشيرة عبور الى استنزاف أكثر من دولة عربية. المؤسسة العسكرية الأميركية ليست راضية على أداء إدارة بايدن ولا على مشاريعه التكتيكية، وهي ليست راغبة في تقديم منطقة الخليج على طبق من فضّة للجمهورية الإسلامية الإيرانية. الحزب الجمهوري بدأ يدقّق في بعض السياسات التي تتبناها إدارة بايدن نحو الأزمات الإقليمية، وأعطت بموجبها لكل من الحرس الثوري الإيراني و"حزب الله" أدوات الهيمنة على المصير والقرار كما يفعلان في لبنان.
حتى رئيس الحكومة اللبنانية نجيب ميقاتي الذي أتى الى السلطة برضا "حزب الله" في حكومة محسوبة على الحزب، طفح كيله من رفع السقف و"نهج التفرّد والتعطيل الذي تعرّضت له الحكومة من الداخل"، رافضاً "تدخّل مجلس الوزراء في عمل القضاء"، الذي يمليه "حزب الله" وشريكه "أمل" في "الثنائي الشيعي". هذا رئيس حكومة لا يستطيع أن يمون على وزير إعلام متعجرف يضع عنجهيته قبل المصلحة الوطنية، ويصرفها على حساب أرزاق الناس، رافضاً الاستقالة أو التراجع عن مواقفه من السعودية والإمارات، والجاهلة أساساً في ملف اليمن. جورج قرداحي يرتهن الحكومة والبلاد نيابة عن "حزب الله" وحليفه في "تيار المردة" ووفاءً لمرجعيته السورية، لأنه يعلم جيداً، أو يعتقد في عمقه، أن لا دولة أوروبية ستحاسبه، وأن إدارة بايدن لن تأتي الى إنقاذ لبنان بالوسائل المتاحة لديها، وعنوانها طهران. فلقد قرّرت إدارة بايدن أن تسليم بلد صغير كلبنان الى إيران يستحق الثمن إذا كان الثمن الصفقة النووية مع طهران.
لا يحق لإدارة بايدن ولا للحكومات الأوروبية أن تتقدّم بأي بلد كان فديةً لسياساتها ومصالحها، أو تغطية على ضعفها وانسلاخها عن القيَم التي تدّعيها. فلتتفاوض نوويّاً مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية، ولترفض ما تعتبره إقحاماً لسلوك إيران الإقليمي الخبيث على المفاوضات النووية. لكن لا صلاحية لها ولا أخلاق في تمكين إيران ووكلائها من بعث الدمار والانهيار للبنان أو غيره تنفيذاً للمشاريع الإقليمية للجمهورية الإسلامية الإيرانية.
حان وقت فضح العلاقة العضوية بين المفاوضات النووية وتأشيرة التدمير والهيمنة التي منحتها الحكومات الأوروبية وإدارة بايدن، باعتمادها مواقف متخاذلة أمام طهران حماية لمفاوضات في فيينا قد تستغرق الوقت الذي ترتئيه إيران لاستكمال مشاريعها الخبيثة.
مرة أخرى، ليس أمام لبنان من منقذ سوى الفاتيكان. والقصد ليس أن يكون الزخم فقط بالصلوات بل بطرحٍ جدّي مع واشنطن والعواصم الأوروبية للدفع بها الى القليل من الحياء.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك