الاعتقاد السائد في العديد من الأوساط السياسية العربية والدولية، والنظام الأسدي بدوره يروّج له حتى لو كان على الرمق الأخير، ان الأزمة السورية طويلة جداً هو اعتقاد خاطئ، ويدحض هذا الاعتقاد ويطرحه جانباً تطور الأحداث والمعارك الميدانية الضارية المستعرة الآن حيث تواجه المعارضة الثورية بما في ذلك الجيش السوري الحر والجماهير المسلحة نظاماً متداعياً مترنحاً ارفضت من حوله الناس ولم يتبقَ له سوى أداته العسكرية وكتائبها وفرق الإعدام والتصفية أولئك الشبيحة الأوغاد. هذا هو الانقسام الفعلي القائم في سوريا الآن وهو لا يصنع حرباً أهلية. فبالرغم من الطبيعة الفئوية لتركيبة القيادات الآمرة للوحدات العسكرية من كبار الضباط والمسؤولين الأمنيين الممسكين بالقرارات حيث راكم النظام الأسدي على امتداد أربعين سنة آمرين جرى انتقاؤهم وتعيينهم من الأقليات الدينية والمذهبية وهم في غالبيتهم من الموالين له ضمن طائفته، فإن الحرب الأهلية لم تقع. فالمضايقات والتحرشات المشكو منها على الصعيد الوطني، في احياء المدن وشوارعها وأريافها لم تتفاقم لتصبح مذابح جماعية وتنكيلاً بالجملة ولا تهجيراً لفئة دون أخرى وجماعات دينية وأثنيات كما جرى ذلك ببشاعة لا توصف في الهند (1947 وبيافرا (نيجيريا في السبعينات) ولا رواندا وغيرها. إنه لمن الثابت قطعاً أن المجازر التي تم ارتكابها مؤخراً هي من فعل عسكر النظام وفرق الشبّيحة الأنذال. كما ان الانشقاقات الطوعية والانضمام للثورة قد طاولت نخباً وقيادات وشخصيات بل عناصر وافدة في أحيان كثيرة من هذه الأقليات نفسها. وقد أسقط في يد النظام الأسدي وهو يمارس التعبئة المذهبية والتحريض الديني والتهويل والتخويف عندما راح يشاهد ما تبقى له من رصيد يتلاشى أكثر فأكثر. ولم نشهد قط في سوريا تهجيراً جماعياً (exode massive) لهذه الأقليات نحو البلدان المحيطة بل طاولت حركة الهجرة غالبية سورية من كل الفئات اضطرت لمعاودة النزوح تبعاً لسير المعارك. فلا مسيحيو حلب ولا المناطق العلوية ولا وادي النصارى تعرضوا للقتل وللنزوح كما تروّج الدعاية الأسدية.
أمام الإفلاس الداهم والنهائي الذي يواجهه نظام بشار الأسد عمد الأخير للعب ورقة أخيرة هي في غاية الخطورة ألا وهي خطب ود حزب العمال الكردستاني (PKK) حيث جرى اقحامه وزجه في معارك ذات توقيت خاطئ ومشبوه تهدف في حقيقتها إثارة المتاعب بوجه الجيش التركي وزعزعة الأمن على الحدود التركية الجنوبية الشرقية. وما هو مريب هو أن تتناسى قيادات حزب العمال الكردستاني هذه الفضيحة الأسدية المدوّية التي تورط فيها الأسد الأب عندما عقد صفقة مشبوهة مع أنقرة دفع ثمنها قائده عبدالله أوجلان. فقد تم، تحت ضغط الحشود التركية العسكرية، إجلاؤه مع عناصره عن البقاع اللبناني أيام عهد الوصاية السورية علينا الى دمشق ثم الى روما التي رفضت ايواءه فاضطر للسفر الى نيروبي (كينيا) طلباً لتأشيرة يونانية حيث كان بانتظاره كمين منصوب وطائرة عسكرية تركية. فضيحة تركت ظلالاً مشينة بحق نظام الأسد الأب قيل يومها فيها الكثير عن تورط يوناني وإسرائيلي كانت ضربة موجعة للشعب الكردي، تبعتها ضربات أخرى وجهت في غير اتجاه.
ويرتسم في الحال السؤال المحق التالي: كيف تصدق قيادات الـ(PKK) أن النظام الأسدي بمرحلتيه الأولى والثانية هو الصديق للقضية الكردية والمدافع عنها وله تاريخ أسود حافل بتسديد الفواتير لمصلحة الأميركي مقابل السكوت الأميركي عن استمراره في احتلال لبنان واستغلاله وضخ خيراته ومقدراته لينعم بها قادة النظام الفئوي في دمشق. ألم يتعرض أكراد سوريا كإخوتهم في عراق صدام حسين وسائر دول الجوار للاضطهاد والملاحقة والتغييب والتهميش وطمس هويتهم القومية والدينية وتسليط أجهزة المخابرات السورية على نخبهم ووجوههم الوطنية. فلمصلحة من هذه المعارك الدائرة بين حزب العمال والجيش التركي في اللحظة التاريخية الراهنة. ألمصلحة القضية الكردية أن يجعل "حزب العمال" من عناصره القتالية حرساً لحدود نظام فاشي يمعن في اخوتهم الأكراد وسائر الشعب السوري قتلاً وذبحاً وتشريداً؟ ويمتنع بل يتحفظ الجيش التركي عن اجتياح المناطق السورية المتاخمة لحدوده هناك ذلك أن حلف "الناتو" غير راغب الآن في مواجهة عسكرية قد تؤدي الى نزاع اقليمي ودولي. ولم تفلح حتى اللحظة النصائح الكردية التي وجهتها الأحزاب الكردية الأخرى في ثنيه عن مغامرته العسكرية المشبوهة.
إن تجديد رئاسة عبد الباسط سيدا للمجلس الوطني وضم أطياف وأحزاب جديدة سورية الى هذا المجلس يعني في هذا الوقت إيلاء العامل الكردي في الصراع القائم مع النظام أهمية خاصة مع المزيد من رص صفوف المعارضة السورية. ويقف المجلس الوطني السوري حجر عثرة أمام محاولات النظام الأسدي جرّ البلاد الى حرب أهلية شاملة. وتتوقف بنضج ملحوظ علاقة المجلس بالجيش السوري الحر، خاصة أن هذا الأخير هو الذي يقود المعارك البطولية بوجه الجيش النظامي، وهو الذي يعطل تحول حرب التحرير المشرفة الى حرب أهلية مدمرة. ولعله من المحبط بمكان أن نلاحظ أنه في كل مرة تخطو الثورة السورية خطوة الى الأمام، تأتينا من واشنطن تعويذة النصائح الممجوجة الداعية للمعارضة لتوحيد صفوفها الخ...
فأية غضاضة أن تبقى بعض فصائل المعارضة خارج المجلس الوطني؟ فالثورة الفيتنامية كانت جبهة أي عدة فصائل، وكذلك الثورة الجزائرية بل المقاومة الفرنسية التي قاتل فيها الشيوعيون والديغوليون والوطنيون المستقلون جنباً الى جنب الاحتلال النازي لفرنسا. فإن كان الأميركي قد بدأ يعيش معركة الرئاسة، وهو يرجئ اتخاذ قراراته المهمة بانتظار نتائجها، فحريّ به ألا يُنحي باللائمة على المعارضة السورية باستمرار وكأنه يخفي ميلاً دفيناً لعدم رؤية الثورة السورية تحقق إنجاز النصر. ولسنا ندري لماذا يذكرنا هذا التلكؤ الأميركي بالطروحات الفرنسية الطوباوية الداعية لإنشاء مناطق عازلة أو آمنة غير قابلة للحياة ما دامت بحاجة الى غطاء جوي ودفاعات جوية ما يعني مواجهة عسكرية مع سلاح الجو السوري ومن ورائه الإيراني وربما الروسي أيضاً.
إن قادة الثورة السورية يعلمون جيداً ان معركتهم قاسية وطويلة، لكنها ليست صعبة المنال ولا هي طويلة جداً، فقد أنجز الكثير ولم يتبقّ سوى القليل. ولعل الأخضر الإبراهيم قد جاء ليشهد ويمهر بإمضائه الفصل الأخير.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك