ليس مستغرباً أن يغدو تنظيم صفوف المعارضة السورية أولوية الأولويات لمختلف العواصم المعنية بالأزمة والمهتمة بنصرة الشعب الســــوري في كفاحه من أجل حريّته، وفي إسقاط النظام، وبالأخص في «اليوم التالي» للسقوط. وعلى رغم أن وتيرة التحركات الراهنة للدول الغربية تسارعت، وتوحي بأنها جدية وتبحث في تفاصيل التفاصيل، إلا أن التلكؤ والتأخير اللذين هيمنا عليها طوال عاــم كامل ألحقا بالمعارضتين المدنية والعسكرية أضراراً كارثية. يمكن استحضار أسبابٍ وتبــــريراتٍ شتــــى لتفسير هذا التباطؤ الدولي، إلا أنــــه بلغ عملياً، أو يوشك أن يبلغ، الاستنتاجات والعــــواقـــب التي كانت معروفة وكان يخشاها ويحذر منها. فالوقت المضاع زاد في إيهام النظام بأنه باق طالما أن المعارضة لم تستطع أن تطرح بديلاً منه.
كان مطلع آب (أغسطس) 2011 شكل بداية الانتقال من الانتفاضة المحض سلمية الى المواجهة المسلحة مع طلائع المنشقّين الذين رفضوا المشاركة في قتل أهلهم، ولم يكونوا قد خططوا حينذاك للانتظام في قتال ضد «رفاق السلاح». في الأثناء كانت تركيا بلغت اليأس من النظام وخياراته، اذ عملت على بلورة اطار تنظيمي للمعارضة بغية تفعيل حوار بينها وبين النظام. وبعد شهر، أي قبل عام تقريباً، أُعلنت في اسطنبول ولادة «المجلس الوطني السوري». في اليوم نفسه، بل قبله وبعده، اشتعل السجال بين المعارضين، وكان مبرراً ومفهوماً لأنهم تيارات وأشياع، لكن استمراره على المنوال نفسه أدّى عملياً الى تعطيل المعارضات بعضها بعضاً، لدوافع لم تكن دائماً مفهومة قياساً الى الهدف المنشود.
في ذلك الوقت، كانت التظاهرات السلمية، أيام الجمعة، اخترقت كل السقوف، وحسمت خياراتها: «إسقاط النظام»، «حماية المدنيين»، «المجلس الوطني يمثلنا»، «نعم للتدخل الخارجي»... كان تمثيل «المجلس» والمراهنة عليه مرتبطين حصرياً بما يمكن أن يحققه، اذ لا يمكن التعويل على المعارضات الداخلية حتى الوطنية منها، لأن سقف مطالبها ظلّ دون ما رفعه شباب الثورة وتنسيقياتها. فـ «هيئة التنسيق الوطني لقوى التغيير الديموقراطي» سُجنت في مواقف حددتها منذ الشهر الثالث للأزمة وتأخرت في تنقيحها (خصوصاً بالنسبة الى وجود «الجيش السوري الحرّ» ودوره). أما الموقف الأخير الذي تنأى فيه «الهيئة» بنفسها عن «الطرفين» فيبدو كأنه تموضع لإحراز موقع خاص في مهمة الأخضر الابراهيمي، إلا أنه وشى ببعد عن الواقع وتسبب بـ «تشققات» في صفوفها.
لكن «المجلس الوطني» نفسه تعرّض أيضاً لمصاعب، اذ أُلقيت عليه مسؤولية لم يكن مهيأً لها ولا قادراً عليها، ثم إن تركيبته أظهرت قصوراً: 1) في استيعاب العدد الأكبر من القوى والشخصيات، و 2) في ايجاد تصور عملي للائتلاف والتكافل والتواؤم بين الداخل والخارج، و 3) في تبديد سمعة الهيمنة علـــــــيه من الجماعات الاسلامية أو «الاخوانية» الكفيلة بـ «تطفيش» الكثير من الطاقات المستعدة للمساهمة في جهود الثورة، والأهم 4) في بناء خطة «مركزية» وتوزيعٍ للأدوار تنخرط معه القوى الفاعلة الأساسية كافة في العمل للهدف الجامع المحدد: الانعتاق من هذا النظام... وعلى رغم أن الانشقاقات المتعددة هزّت صورة «المجلس» وأفقدته أشخاصاً، بعض منهم ذوو صدقيـــــــة، إلا أنه استطاع أن يصمـــــد بفعل الحاجـــــة الدولية اليه، اذ دعمتــــــه «مجموعة أصدقاء سورية» وذهبـــــت الى حـــد اعتباره «ممثلاً» للشعب السوري، لكن «شرعية» تمثيله ما لبثت أن اهتزّت تحديداً حين قال «الداخل» إنه خيّب آماله، إلا أنه لم يُسقطه بل صار يعتبره كياناً مساعداً، وأبقاه تحت الاخــــتبار. فإذا برهن فاعليته في اتصالاته الخارجية تزداد صدقيته، وإلا فإن البديل هو «الداخل» نفسه.
كانت القوى الدولية تتطلع الى أن يتمكن «المجلس» من استنساخٍ ولو جزئي لتجربة «المجلس الوطــــني الانتقالي» الليبي، لتتمكّن من العمل معه ومن خلاله، إلا أنها اصطدمت بوقائع عدة: ان «المـــجلس» السوري محدود الاتصالات بالداخل، ولا وجــــود له في «ملاذ آمن» (بنغازي مثلاً) في الأراضي السورية، ولا ارتباط محكماً بينه وبين «الجيش الحـــرّ» على رغم محاولات في هـــذا السبيل، ثم إن قوى المعارضــــة الأخرى لم تظهر التضــــامن المذهـــل الذي التزمته فصائل المعارضة الليبية على رغم تبايناتها التي انكشفت لاحقاً بعد تحقيق الهدف.
غير أن العاهات والعيوب التي تُنسب الى «المجلس» السوري لم تكن سرّاً ولعله أكثر من يعرفها، فهو أول كيان معارض تفرزه الثورة ولم يكن ممكناً اطلاقاً أن يولد في الداخل وإلا تعرّض أفراده للتصفية الجسدية. وعلى رغم إدراكه تنوّع الساحة السورية وتعقيداتها، اعتقد «المجلس» ومن ساهموا في انبثاقه أنهم يقدمون «أفضل الممكن» في ذلك الوقت لمساعدة الشعب السوري على تفعيل ثورته، ولعلهم توقعوا الاعتراضات والمآخذ التي أثيرت، إلا أن عاماً دموياً كاملاً لم يبدُ كافياً لإنهاء تمترس المعارضات كلٌ في موقعها. والأسوأ أن المعنيين عجزوا عن اطلاق الحوارات الحرّة لمد الجسور بين مختلف التيارات على رغم أنهم أكدوا مراراً ضرورتها. لذا انزلق السجال أحياناً الى اتهامات بـ «خيانة الثورة» أو «العمالة للنظام» على رغم فوات الأوان على مثل هذه التفاهات... فمن تعامل وخان أصبح تحت الضوء، ولم يعد النظام يثق إلا بالعملاء المستوردين، من ايران وأذنابها طبعاً، وحتى من اوكرانيا على ما يقال.
بديهي أن «المجلس» راهن على المساندة الخارجية لإعانته على تجاوز مصاعبه، الذاتية منها والموضوعية، فاصطدم هو الآخر بوقائع عدة: ان القوى الدولية دخلت في انقسام حاد واستعادت مناخ الحرب الباردة وتقاليدها، وأنها استهلكت وقتاً طويلاً قبل أن تقتنع بوجوب تغيير النظام ووقتاً أطول لتقتنع بأن هذا التغيير لن يتم سلمياً أو بحل سياسي، وأنها تعاني من «اللعنة العراقية»، بل غرقت في التداعيات الروسية والصينية للحدث الليبي، وأنها عانت أيضاً وخصوصاً من جهل عميق بالوضع السوري وسطحية صلاتها بعناصره وخريطته الاجتماعية.
وهكذا أقبل «المجلس الوطني السوري» على القوى الدولية ناشداً أن تعينه، فإذا بها تنشد معـــونته، وبعدما تعرفت اليه اقتنعت بأن أي تفكير فـــــي التدخل، بغضّ النظر عن حجمه وشكله، يستلزم كياناً أكبر من هذا «المجلس» وأكثر تنظيماً وفاعليةً على الأرض. هنا، أي قبل بضعة شهور، زاد التفاتها الى الجانب العسكري للمعارضة، وعوّلت على «المجلس» ليكون صلة الوصل مع «الجيش الحرّ»، فلاقى «المجلس» الصعوبات نفسها سواء في تحقيق تفـــاهمات مع العسكر أو بالأخص في كون العسكر أنفسهم مجموعات غير موحدة ولا يعرف بعضها الآخر.
وبدوره راهن «الجيش الحرّ» على القوى الدولية لتعينه، فإذا مدّته بالسلاح والعتاد يمكنه أن يوحّد أكبر عدد من المجموعات العسكرية تحت لوائه، وإلا فإنه سيبقى مجمداً في ملاذه التركي. وكما فعلت العواصم مع «المجلس» ومكوّناته، أرادت أيضاً أن تعرف مع أي عسكريين تتعامل، والى من سيؤول السلاح متى توافر، وما هي احتمالات وقوعه في أيدي جماعات يمكن أن تكرر التجربة الأفغانية فتنشئ ما يعادل «القاعدة» وفروعها. وبعد الاتصالات الأولية مع القادة المعروفين لـ «الجيش الحرّ» وتحليل ما أنجزوه، توصلت القوى الدولية، ولا سيما الولايات المتحدة، الى أن هذا «الجيش» يحتاج الى قيادة وتراتبية واضحتين، فهناك منشقّون ذوو رتب عالية لا يستطيعون العمل تحت إمرة من هم أدنى رتبة حتى لو كانوا يتمتعون بميزة أنهم مؤسسو هذا الجيش.
خلال اجتمــــاعات عمل طويلة عقدت أخيراً، أتيــــــح لمعارضين عسكريين ومدنيين أن يلمسوا مدى التحوّل الحاصل في المقاربة الاميركية، واستــــطراداً الغربية، لقضيتهم. كانت هناك مصارحة مفتوحــــة عــــن خريطة الطريق والأهداف، لكن أيضاً عن الواجبات العاجلة والملحّة: حكومة انتقالية تستعين بكبار المنشقّين السياسيين، وقيادة عسكرية موحدة يديرها كبار العسكريين المنشقّين. تحدّيان جدّيان يضعان المعارضة أمام لحظة الحقيقة وعلى الطريق لتنحية بشار الأسد.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك