تهيمن أشباح الفتنة على الشارع في لبنان. تحوم في كل مكان، تشارك اللبنانيين في يومياتهم، تطل عبر شاشات التلفزة والمنابر الخطابية من دون مساحيق تجميل. تتبرع بالسلاح والذخيرة لشباب لم يختبر بشاعات الحرب الأهلية. تجلس على مدرجات الملاعب لتحريض الجماهير. تتنقل براحة واطمئنان بين جبل محسن وباب التبانة. تمارس هواية الخطف على الهوية في وادي خالد. تتجول في الهواء الطلق على الحدود اللبنانية ـ السورية، ثم تطل برأسها من صيدا.
الكل في لبنان يخشى «الفتنة البغيضة» التي «تهدف الى خدمة العدو الإسرائيلي»، وينبه الى مخاطر الوقوع في أفخاخها. الكل يتبرأ منها ويعتبرها «منتحلة صفة»، تدّعي زوراً وبهتاناً النطق باسم هذا المذهب او ذاك.. لكن المفارقة ان هؤلاء جميعاً يعودون في نهاية المطاف للارتماء في أحضانها، ويقدمون لها البيئة الحاضنة والدافئة.
وإذا كان مشروع الفتنة ـ بطبعته الجديدة ـ لم يحرق بعد أخضر البلد ويابسه، مكتفياً حتى الآن بإشعال «حرائق صغيرة»، إلا ان الفضل الأكبر في الحفاظ على حد أدنى من استقرار هش ـ أقله لغاية اليوم ـ لا يعود الى شعور أمراء المذاهب وقبضايات الزواريب، بـ«المسؤولية الوطنية والتاريخية»، بل الى كون اللاعبين الخارجيين الذين يعطون عادة إشارة الانطلاق لـ«سباق الفتنة»، قرروا ان يجعلوا من لبنان في الوقت الحاضر «ساحة احتياطية»، وبالحد الأقصى «ساحة نصرة»، في انتظار ما سيؤول إليه تطور الأحداث في سوريا.
ويقر مرجع لبناني كبير أن عناصر الفتنة متوافرة في لبنان، مشيراً الى انها تنمو في تربة خصبة، وترتوي من منابع التحريض والتعبئة، الأمر الذي يجعل الوضع الداخلي قابلاً للانفجار في أي لحظة، ما لم يتم تداركه سريعاً، من خلال رفع مستوى مناعته، آملا في ان يتمكن الحوار الوطني المتجدد من «السيطرة» على هذا الواقع الخطير، إذا كانت معالجته متعذرة حالياً.
ويؤكد المرجع ان الأفضل في الظروف الراهنة تجاهل بعض الاصوات المتوترة التي تكثر من الصراخ وتستثير الفتنة، لأن الهدف الكامن أصلا خلف نبرتها المرتفعة هو استدراج الآخرين الى الانفعال والرد، وهذا ما يجب تفاديه، عبر ضبط النفس.
ويستغرب المرجع إصرار جهات معينة على الخوض في خلافات مذهبية وعقائدية عمرها أكثر من 1500عام، بينما تواصل اسرائيل في هذا الوقت تهويد القدس وتغيير معالمها، وتمعن في اعتداءاتها على الفلسطينيين، «علماً أن القواسم الدينية المشتركة كما المصالح السياسية المشتركة بين المذاهب الاسلامية، هي أكثر من نقاط الخلاف، ويمكن الانطلاق منها لتغليب منطق الوحدة على محدلة الفتنة».
وينبه المرجع الى محاذير الانفلات الإعلامي السائد على مستوى بعض الفضائيات التي تقدم نفسها باسم الدين والتقوى، في حين ان خطابها لا يقود سوى الى التفرقة والفتنة.
ويروي المرجع كيف ان أحد المقربين منه أبلغه أنه شاهد على محطة فضائية برنامجاً يتضمن تحريضاً مذهبياً رخيصاً، ليتبين بعد التدقيق ان هذه المحطة تبث من لندن. وعلى الأثر، استدعى المرجع القائمة بأعمال السفارة البريطانية (بسبب غياب السفير)، وشرح لها محاذير ما تبثه القناة الفضائية التي تستضيفها بريطانيا على أراضيها، سائلاً الديبلوماسية البريطانية: «ما هي حقيقة موقفكم من هذه الظاهرة، وهل تسعون الى إثارة فتنة سنية ـ شيعية، لا سيما أننا نعرف تاريخ بلادكم في المنطقة»؟
وعلى الفور، «التقطت» الدبلوماسية الزائرة القناة المشكو منها عبر جهاز الكومبيوتر الصغير الذي كانت تحمله، ودوّنت موقف المرجع الكبير، وأبلغته انها ستراجع حكومتها، ثم تنقل إليه الرد الرسمي.
وتحت وطأة «هاجس الفتنة» نفسه، يشدد وزير الداخلية مروان شربل على ان الاولوية في هذه المرحلة يجب ان تكون لحماية لبنان من خطر الانزلاق الى مواجهة مذهبية، معرباً عن اعتقاده بأن احتواء التوترات المتنقلة يظل أمراً متاحاً، ما لم يحدث تطور دراماتيكي يقلب الطاولة على رؤوس الجميع.
ويشير شربل إلى أن أكثر ما يقلقه ويؤرقه هو احتمال تنفيذ اغتيالات سياسية، لأنه في هذه الحال فقط قد تفلت الأمور من السيطرة وتدب الفوضى، لا سيما أن النفوس محتقنة والأجواء محمومة، على إيقاع التطورات الساخنة في المنطقة، ولا سيما أحداث سوريا.
ويوضح ان الخطة الأمنية، التي ستبدأ صباح غد وتستمر شهراً، «نريدها أن تشكل صدمة أمنية تعيد التوازن الى وضع البلد في أعقاب تكاثر الحوادث مؤخراً، ويُفترض ان تضع حداً لنظرية «الأمن بالتراضي» بعدما بات القميص الأمني الوسخ يشكل عبئاً على فريقي 8 و14 آذار معاً».
ويؤكد الوزير شربل انه لن تكون هناك مناطق مغلقة امام القوى العسكرية والأمنية، وستتم ملاحقة المرتكبين والمطلوبين، أينما وُجدوا، لافتاً الانتباه الى ان الضاحية الجنوبية شـأنها شأن الأماكن الأخرى ستطالها الإجراءات الحازمة والرادعة، «وحزب الله ليس متجاوبا فقط مع الخطة، بل يرفض التدخل في أي تفصيل يتعلق بها، وبالتالي فهو لم يضع أي خط أحمر او أصفر امام تحرك الاجهزة المختصة، خصوصاً أنه بات الاكثر تضرراً وانزعاجاً من بعض مظاهر الفوضى التي تشهدها بيئته».
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك