كتب شربل فخري:
منذ أن نال لبنان استقلاله الرسمي في العام 1943، بقيت فكرة الاستقلال كحلم يداعب مخيّلة اللبنانيين أكثر من كونها واقعاً معيشياً. فعلى الرغم من خروج المستعمر الفرنسي، إلا أن البلاد ظلت عالقة في دوّامة التأثيرات الخارجية، سواء الإقليمية منها أو الدولية، حتى أصبح مفهوم السيادة الكاملة مجرّد شعار يُرفع في المناسبات.
ولكن اليوم، وبينما يمرّ لبنان بأحلك فصول أزماته السياسية والاقتصادية والاجتماعية، يبدو أن الوقت قد حان للتفكير في استقلال جديد. استقلال حقيقي، لا يُختزل فقط بتحرير الأرض، بل يمتدّ ليشمل تحرير القرار الوطني من أي وصاية خارجية.
منذ أكثر من أربعين عاماً، باتت قرارات لبنان السيادية مرهونة بإرادة قوى خارجية، وعلى رأسها إيران، التي نجحت عبر أذرعها في فرض أجندتها على البلاد. وأصبح لبنان ساحة مفتوحة لصراعات إقليمية ودولية، يدفع الشعب اللبناني ثمنها من دمائه واستقراره. هذه السيطرة لم تكن لتتمّ لولا الانقسامات الداخلية التي سمحت بإدخال لبنان في لعبة المحاور، مما جعله عرضةً للتبعية السياسية والاقتصادية.
إيران، عبر دعمها المباشر لحزب الله، رسّخت واقعاً جديداً في لبنان، حيث أصبح السلاح خارج سلطة الدولة، وأصبحت القرارات السياسية الكبرى، من الحرب والسلم إلى تشكيل الحكومات، رهينة لهذا النفوذ. لا شك أن إيران ليست الجهة الوحيدة التي حاولت التدخل في الشأن اللبناني، لكنها كانت الأكثر تأثيراً واستدامة، مما أدى إلى تفاقم عزلة لبنان عربياً ودولياً.
الطريق إلى الاستقلال الحقيقي يمرّ عبر إعلان حياد لبنان عن كل الصراعات الإقليمية والدولية. هذا الحياد ليس انسحاباً من محيطه العربي أو تخلّياً عن قضاياه العادلة، بل هو تمسكٌ بمبدأ أن لبنان يجب أن يكون جسراً للسلام والتواصل، وليس ساحةً لتصفية الحسابات.
الحياد يعني رفض الانخراط في محاور إقليمية، سواء كانت بقيادة إيران أو أي قوة أخرى، عربية أو دولية. هو موقف سيادي يتطلب شجاعةً سياسية ودعماً شعبياً، خصوصاً أن اللبنانيين باتوا يدركون أن استمرار التبعية لأي طرف خارجي هو وصفة مؤكدة لاستمرار الانهيار.
إعلان الحياد سيتيح للبنان استعادة علاقاته الطبيعية مع أشقائه العرب والمجتمع الدولي، مما يفتح الأبواب أمام الدعم الاقتصادي والسياسي الضروري لإعادة بناء الدولة. كما أنه سيُعيد للدولة هيبتها، حيث لا يمكن لبلد أن يكون حيادياً من دون أن تكون قراراته السيادية بيده، ومن دون أن يكون احتكار السلاح بيد جيشه الوطني فقط.
ولكي يتحقق الاستقلال الجديد، يجب أن يسبق الحياد خطوات شجاعة لتحرير القرار الوطني اللبناني من كل القيود الخارجية. وهذا يتطلب:
تعزيز مؤسسات الدولة: يجب أن تعود السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية إلى لعب دورها الطبيعي بعيداً عن الضغوط الخارجية أو الداخلية.
حصر السلاح بيد الدولة: لا يمكن الحديث عن استقلال جديد في ظل وجود جهات مسلّحة خارجة عن سلطة الدولة.
إصلاح النظام السياسي: النظام الطائفي الذي يحكم لبنان هو بوابة التدخلات الخارجية. لذلك، لا بد من إصلاح سياسي يضمن بناء دولة مدنية قائمة على المواطنة.
استعادة العلاقات العربية: يجب أن تكون الأولوية لإعادة بناء علاقات لبنان مع محيطه العربي، بعيداً عن الاصطفافات الإقليمية التي أضرّت بمصالحه.
لا شك أن مشروع الاستقلال الجديد لن يمرّ من دون مقاومة، سواء من القوى الداخلية المستفيدة من الوضع الراهن أو من الجهات الخارجية التي ترى في لبنان ورقة ضغط ضمن صراعاتها الإقليمية. لكن التاريخ يثبت أن الشعوب التي تصرّ على حقوقها تنجح في النهاية في تحقيق تطلعاتها، مهما كانت الصعوبات.
الشعب اللبناني اليوم منهك، لكنه ليس مستسلماً. الأزمات الاقتصادية والمعيشية التي يعيشها أصبحت المحرّك الأساسي للمطالبة بالتغيير. بات واضحاً للجميع أن التبعية للخارج لم تجلب سوى الحروب والعزلة والانهيار.
"استقلالنا الجديد" ليس مجرد شعار، بل ضرورة وجودية. لبنان بحاجة إلى حياد فعلي واستقلال كامل عن مختلف الأنظمة والقوى الخارجية، خصوصاً تلك التي صادرت قراره لعقود. هذا الاستقلال الجديد لا يمكن أن يتحقق إلا بتكاتف اللبنانيين حول مشروع وطني جامع، يُقدّم مصلحة الوطن على أي مصلحة أخرى.
ربما تكون الطريق طويلة وشاقة، لكنها الطريق الوحيدة نحو بناء دولة حقيقية تضمن الكرامة والسيادة والازدهار لجميع مواطنيها. فهل سيكون اللبنانيون على قدر التحدّي؟
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك