كتبت رولا نجم أبو مراد:
أطبع هذه الكلمات ويداي ترتجفان وسِهام الاتهامات باللاإنسانية والخيانة والعمالة تزاحم بعضها البعض في رأسي بهجمات انقضاضية علي، وكأنها نوع من أمراض المناعة الذاتية. هذا المرض الذي فتك بنا نحن الذين تُطلق في وجهنا دائماً وكيفما كان وبسبب أي فكرة معارضة للنهج الممانع اتهامات العمالة والنقص في الوطنية وأحقرها الاتهام بالصهيونية. أصبحنا نتهم أنفسنا تلقائياً لأن هذا ما سنلقاه إن فكرنا أو شعرنا بطريقة مغايرة بمطلق الأحوال.
وقعت الحرب الأوسع القذرة واستفحل إجرام الإسرائيلي مدمّراً، قاتلاً ومهجّراً الآلاف من الجنوب أحد أهم معاقل حزب الله والقاعدة الشعبية المدنية الحاضنة له والمستشرسة في الدفاع عنه.
قالوا لنا اليوم يوم تضامن إنساني لا مكان فيه للسياسة ولا للشماتة ولا للأحقاد ولا حتى للعتاب. هؤلاء من جوقة الأبرار الأنقياء أصحاب القلوب الطاهرة والنفوس المتعالية والأخلاق الرفيعة، النجباء الذين رضعوا الكِبَر في صغرهم. ينهالون عليك بالتأديب والوعظ وإعطاء دروس بالأخلاق قبل أن تستوعب خبر الحرب وقبل أن ترى طوابير النازحين تنجرف الى أماكن آمنة تبعد عنهم كأس الموت.
قالوا لنا ضعوا العقل جانبًا وهبّوا للمساعدة. أطفئوا تلك المحركات وعطّلوا ذاكرتكم وأطلقوا العنان لعواطفكم الجياشة. طلبوا منا أن نعيش انفصامًا عقليًا وعاطفيًا وقالوا لنا تناسوا تاريخكم المضرج بالدماء وبالقتل وبالترهيب على مدى سنوات.
إنسوا كل ذلك، ولنعد إلى التاريخ القريب هنا، إلى تفجير مرفأ بيروت ومن قام بتعطيل التحقيق وقام بتهديد القاضي في العدلية. ولنجزم أن إسرائيل هي من قامت بهذا التفجير لماذا لم يهبّ الحزب للرد دفاعا عن لبنان أم أن دماء "النازقين" لا تستأهل حرباً دفاعاً عنهم وانتقاما لهم وهي دماء رخيصة لا قيمة لها على أجندة حزب الله بينما دماء الغزاويين وهي لا شك في أنها دماء ننحني أمامها تتطلب حرب مساندة أدخلت كل اللبنانيين في آتون جديد. لا بل على عكس ذلك قام بتمييع إتهام الاسرائليين وهو الذي يهبّ في كل مناسبة ليوجه أصابع الاتهام الى الصهاينة.
إنسوا كيف أن أمين عام حزب الله أطلّ يائساً بعد مقتل قائد فيلق القدس قاسم سليماني ولكنه بعد انفجار المرفأ أطلّ على اللبنانيين مرتاحاً وحتى مبتسمًا لأننا مجرد أشلاء تمّ كنسها مع الزجاج والردم المتناثر في العاصمة بيروت.
قالوا لنا ضعوا العقل جانبًا وانسوا أن هذا الحزب متهم باغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري وبسلسلة من الاغتيالات التي لا يجرؤ قاضٍ ولا مواطن على البحث فيها.
اذا كان الرد هنا أن الحزب لا علاقة له بكل هذه الاغتيالات وهو القوة الأعظم في لبنان لماذا إذا لم يساهم في الكشف عنها أو الردّ عليها؟
طلبوا من والدة الياس خوري ومن أهل ألكسندرا نجار أن يضعوا الحرقة جانبا الآن لأن الواجب الوطني يتطلب دفن الجراح المنكوءة وممنوع السؤال أو التساؤل والا أنت عنصري طائفي قذر مجرد من الانسانية.
سبحان الله كيف في المقلب الآخر وفي سيناريو معاكس لا نرى مثل هذه المطالب من الإنسانية والكبر فالاستيعاب والاحتضان والاحتواء والتعالي والانسانية مهنة المقتولين والمقموعين والمدعوسين في لبنان.
وأليس هذا ما فعلناه بعد الـ2006 فجاء بعدها 7 أيار وتتالت الويلات علينا وتعمّق الاستقواء؟ ألم تحصل أحداث الطيونة؟ ألم يُقتل لقمان سليم؟ ألم يُقتل الياس الحصروني وبسكال سليمان؟
ألم يخرج علينا وحوش الخندق الغميق وغيره في 17 تشرين صارخين في وجوهنا شيعة شيعة شيعة ضاربين من صادفوه حارقين الخيم لنشر الهلع والخراب وإسكات أي صوت معارض؟
أما بالنسبة للشماتة فمن يمارسها -وهو مخطئ ومدان- تعلمها ممن أتقنها ويعطي دروسا فيها، فمن وزع البقلاوة بعد اغتيال جبران التويني؟ ومن استهزأ بجراح ومأساة مي الشدياق ، لكن أصحاب الأفواه المتشدقة لا نراها في هكذا مناسبات تنادي الطرف الآخر وتعظه بالمثل بل تلتزم الصمت.
على من يُقتل ويُضرب ويُستبد به في وقت السلم أن يعطّل عقله ويطعن المرارة في قلبه ويغرف ما تبقى من إنسانية لديه ليمنحها لأخيه المواطن في وقت الشدّة والضعف. هذا الأخير الذي هو في ذروة ضعفه يبقى أقوى من أي طرف آخر لأن الحزب الذي يمثله هو الأقوى الذي لا يعتبر الدولة في وقت السلم الا عندما يناسبه الوضع وهو يجندها ويستغلها لتسانده عندما تقع المصيبة.
هذه الدولة التي تركت المصابين والمتضررين من تفجير 4 آب لتعينهم شبكة من المنظمات غير الحكومية نراها تتجنّد لنجدة هذا الحزب وأنصاره ولتميّز بين ضحايا بسمنة وضحايا بزيت.
والدليل على ذلك إشكالية التعويضات التي استرخصت فيها أرواح شهداء 4 آب والمصابين وثمنّت بعدها أرواح الجنوبيين. لأن المعادلة في هذا البلد أن هناك أرواح رخيصة وأرواح ثمنها عالي.
ضعوا العقل جانباً وهبّوا للمساعدة! ونحن لا يمكن الا أن نفعل ذلك أصلا لأن هذا ما تربينا عليه ولأنّ شعورًا من الغثيان والقرف من أنفسنا يتملكنا إذا فكرنا أو فعلنا عكس ذلك علما أننا على يقين أن هؤلاء من فتحنا لهم بيوتنا وكنائسنا ومناطقنا عندما تشتّد عزيمتهم ويقوى عودهم من جديد سيعيدوننا الى المربع الأول في حال عدنا وعارضناهم في السياسة وفي الحياة اليومية وسيشهرون في أول استحقاق سلاحهم في وجهنا وألسنتهم ستلسع أرواحنا بإتهامات العمالة من جديد.
وهذه المحنة التي تمرّ على أنصار الحزب سوف ندفع ثمنها لاحقا في السلم وفي السياسة منّةً وامتنانا وتعويضا سياسيا ووطنيا لتنسحق كرامتنا وقيمتنا مرة أخرى في هذا الوطن. فهذا البطش الذي يناله الحزب مرة بعد مرة من اسرائيل يستوفي حقه من اللبنانيين الخاضعين والذين يزدادون خضوعا وخنوعا يوما بعد يوم.
وإذا كان هناك شريحة من اللبنانيين يرفضون ضمنيا ممارسة إنسانيتهم في هذه اللحظات الأليمة لما تجرأوا أصلا على فعلها. فالخوف من الحزب وأنصاره نخر عظام المعارضين ومن ينفي ذلك يكون أيضا من المكابرين التافهين.
أما بالنسبة للأفواه المتشدّقة التي تبحث لنفسها عن بقعة ضوء حتى في خضمّ المصائب لتعظنا وتتعالى علينا بفائض من الإنسانية -فنحن اليوم بين سندان فائض القوة ومطرقة فائض الانسانية- نحيي رقيكم الذي نمارسه نحن أيضا رغم أنفوكم وكل على طريقته لكن أتركوا لنا بعضا من العقل وبعضا من التساؤلات فلم يبق لنا شيء سوى التساؤل وهذه المساحة الضيقة من الحرية فنحن في مستنقع ووحول الانهزامية ولا أحد مكسور كما نحن مكسورون ولكن الفرق أن ليس هناك من يضمّد جراحنا بل هناك جزمات تعمّق لنا.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك