كتبت سلوى البعلبكي في "النهار":
يندر جدا ان يمر مشروع ما، أو قانون، أو اقتراح ذو طبيعة حساسة أو عادية من دون بروز اشتباك سياسي ونيابي حوله، يأخذ بجريرته مندرجات القوانين والدستور ويضع اللبنانيين أمام متاهة لا تمنحه، وهو المحتاج الى أي استقرار ممكن، إلا مزيدا من الضياع.
أحيل مشروع قانون موازنة 2024 الى المجلس النيابي، ضمن المهل الدستورية، وبدأ المجلس مناقشة أرقامه وبنوده، وفق دوره ووظيفته. فجأة بدأ الكلام عن عدم قدرة المجلس على إقراره، وعن استحالة السير بأرقامه، وتصاعد النقاش إزاء الضرائب والرسوم الواردة فيه، ما ولّد قناعة لدى البعض بأن "حليمة" المشاكسات والنكايات، عادت إلى عاداتها القديمة، وأن لا مرور ولا تمرير، بل إصرار على الإشتباك السياسي والقانوني والدستوري، فيما نار الإقليم تلتهب وتقترب من لبنان، حيث لا دستور حينها ينفع، ولا قوانين.
"القوانين وُضعت لتطبّق" والدساتير قُدّست لأهميتها في انتظام الدولة، وحساسية دورها في توزيع السلطات والأدوار وصناعة القرار، كما أن الموازنة بما تحمل من أرقام وإيرادات ومطلوبات، ووجهة صرفها وجباياتها، تؤشر إلى السياسات المالية والإقتصادية والإجتماعية للدولة ومؤسساتها، لذا وجب إقرارها في المجلس النيابي بقانون، لتأتي مظللة بتوافق الغالبية الشعبية عبر ممثليها فيه.
مصادر مطلعة تؤكد أن ما يحصل من جدال وتجاذب حول موازنة 2024، واشاعة أجواء حيال صعوبة إقرارها في المجلس النيابي لاعتبارات عدم التشريع بغياب رئيس للجمهورية، وعدم القدرة على إصدارها بمرسوم أيضا من الحكومة عن سبق الإصرار، لغياب التوافق واعتكاف بعض الوزراء، وكذلك الحاجة الى توقيع الـ "24 رئيسا"، كل هذا "ليس عملا تشريعيا وقانونيا ودستوريا وماليا ونقديا"، بل هو في رأيها "أفضل ما تسمح اللياقات به، عناد مَرضي، وخدمة مجانية للفوضى والتعطيل، وهدر المال العام، وتوجه مباشر لتدمير ما بقي من احترام للقانون والدستور ودورهما، مع سبق الإصرار والترصد من الممسكين بأنف الدولة".
هل يحق للحكومة إصدار الموازنة بمرسوم؟
منذ أن تسلمت لجنة المال والموازنة مشروع موازنة العام 2024 وهي أشبه بخلية نحل، تعكف على درسه ومناقشته، إذ تبين من جلسات اللجنة التي تنعقد تباعا وجود نقاش حاد واختلاف في وجهات النظر بين النواب من جهة ووزارة المال والحكومة من جهة أخرى، لا سيما حيال ما يحويه مشروع الموازنة من احكام قانونية، لجهة المواد التي ترفع من الضرائب في سبيل زيادة إيرادات الدولة، في مقابل خلوّ المشروع من التخطيط والرؤية ومن ايّ من الحلول التي تكرس زيادة الإيرادات العامة بطرق تريح كاهل المواطنين. وفي ضوء النقاش القائم والمحتدم تتذرع أوساط الحكومة (ويصل الامر بها الى حد التهديد) بإمكان ان تمارس حقها بإصدار الموازنة بمرسوم، اي من دون حاجة الى قانون يقره #مجلس النواب.
فما هو المغزى من منح الدستور الحكومة الحقّ بإصدار الموازنة بمرسوم؟
تنص المادة 86 من الدستور صراحة على أنه في حال لم يبت مجلس النواب نهائيا مشروع الموازنة بعد انتهاء المهلة المحددة آخر الشهر وبعد أن يصار إلى تمديد هذه المهلة حتى نهاية كانون الثاني، فيحقّ لمجلس الوزراء عندئذ أن يتخذ قرارا يصدر بناء عليه رئيس الجمهورية مرسوما بجعل #الموازنة العامة نافذة.
تؤكد المحامية الدكتورة جوديت التيني منح الدستور في المادة 86، وهو نص خاص يطبق بخصوص الموازنة، الحكومة الحقّ بإصدار الموازنة بمرسوم تكريساً لانتظام المالية العامة، وتاليا وجود موازنة عامة تدير مالية الدولة وتنظمها، وهذا الحق يجب ألّا يمارس وفقا للدستور إلا في حال تأخر مجلس النواب او امتنع عن البت بصورة نهائية بالموازنة ضمن المهلة الدستورية الممنوحة له، وطالما ان الحكومة كانت متممة لواجباتها الدستورية في احالة مشروع الموازنة الى المجلس النيابي ضمن المهلة الدستورية المنصوص عليها. يعني ذلك أن المشرّع الدستوري كان متشددا في منح الحكومة الحق بإصدار الموازنة بمرسوم لان الصلاحية المالية تعود في الأصل الى مجلس النواب وهي الصلاحية التشريعية الأولى له.
وتتحدث التيني عن خطورة اصدار الموازنة بمرسوم، فتشير الى أن "النقطة الاهم هي ان حق الحكومة بإصدار الموازنة بمرسوم يعني ان الموازنة ستصدر بالصيغة التي تقدمت بها الى المجلس النيابي، أي انها ستترجم فقط رغبة الحكومة، وستأتي بكل الأحكام القانونية التي ارادتها الحكومة، من دون اخذ إرادة مجلس النواب في الاعتبار. صحيح انه شكلاً وظاهراً ستصدر موازنة عامة، أي سيكون هناك موازنة، لكن هذا الصك سيعكس فقط تصور الحكومة وما ارادته من احكام قانونية لتنظيم المالية العامة وادارتها، ومع كل ما يمكن ان يحتويه هذا الصك من فرسان أيّ من احكام قانونية لا تمت الى الموازنة بصلة، وفقا لتعريف الموازنة وما يجب ان تحتويه من احكام لها علاقة بتقدير النفقات والواردات والاجازة بالجباية والانفاق، ولكن أريد تمريرها فيه، وسيحتوي هذا الصك كذلك كل الزيادات الضريبية التي لا تراعي المبادئ الدستورية ومنها التكليف وفقا لقدرة المكلف على تحمّل العبء الضريبي، وهذا معيار العدالة الضريبية، في حين ان رقابة مجلس النواب كانت لتكون ضرورية من خلال ما يقوم به عملاً بوكالته التمثيلية عن الشعب، من ضبط للمعايير وتكريس لحقوق المواطنين الاقتصادية والاجتماعية. كما للمجلس دور مهم في الرقابة على ارقام الموازنة ودور لجنة المال والموازنة في تصويب الإنفاق وفقاً لتقديراتها ضمن الحدود المفترضة ونِسب العجز المقدّرة".
ولكن هل سيأخذ هذا المرسوم بالتعديلات التي اقرتها لجنة المال والموازنة؟ تجيب التيني بالنفي، لان الموازنة تصدر في الشكل الذي تقدمت به الحكومة من المجلس النيابي وفقا لصراحة المادة 86 من الدستور.
في السؤال عن المبنى الدستوري لهذا الحق، وما اذا كان جائزا للحكومة ان تمارسه بخصوص موازنة العام 2024، تلفت التيني الى المواد 32 و83 و86 من الدستور التي تتناول البحث والتصويت على الموازنة، وهي تحدد المهل الدستورية بهذا الشأن بهدف منع التباطؤ في إعداد الموازنة ودرسها وإقرارها، لِما لذلك من أثر خطير على المالية العامة وانتظامها.
ويجتمع مجلس النواب كل سنة في عقدين عاديين: الأول في آذار وايار وتخصص جلساته للتشريع. اما العقد الثاني فهو عقد تشرين ويبدأ يوم الثلثاء الذي يلي الخامس عشر من تشرين الأول ويستمر حتى نهاية السنة، ويخصص حصراً للبحث في الموازنة والتصويت عليها. واحالة الحكومة مشروع الموازنة الى مجلس النواب يجب ان تكون منجزة في بدء العقد الثاني للمجلس.
وتنبّه المشرّع الدستوري لاحتمال انقضاء هذه الدورة من دون ان يصار الى البت بالموازنة، لذلك نصت المادة 86 من الدستور على دعوة المجلس النيابي الى عقد استثنائي يستمرّ حتى نهاية كانون الثاني لمتابعة درس الموازنة والبت بها. والدعوة تكون من قِبل رئيس الجمهورية بالاتفاق مع رئيس الحكومة، على ان تُطبّق القاعدة الاثني عشرية ريثما تُقرّ الموازنة. وفي حال انقضى هذا العقد ولم يبت مجلس النواب الموازنة، يعود للحكومة حينئذٍ ان تقرّر اصدار الموازنة بمرسوم طالما انّ مجلس الوزراء قد احال الى مجلس النواب مشروع الموازنة قبل بداية عقده بخمسة عشر يوماً على الأقل. اما في الحالة المخالفة، فتفقد الحكومة حقها في إصدار الموازنة بمرسوم.
المعطيات الثابتة والأكيدة اليوم أن الموازنة في طور البحث داخل مجلس النواب في دورته العادية الثانية التي ستستمرّ حتى نهاية العام 2023، وانّ مشروع موازنة العام 2024 أُحيل من الحكومة الى المجلس النيابي في المهلة الدستورية المرعية الاجراء، وقبل بداية عقده بـ15 يوما على الأقل بموجب المرسوم الرقم 12211 تاريخ 28/9/2023، غير أن الدعوة الى عقد استثنائي ستكون غير متاحة. وقد تسعى الحكومة وفقاً لتفسيرها الخاص للدستور الى اصدار الموازنة بمرسوم بحلول العام 2024.
فما المطلوب اليوم لتجنّب كِلا الامرين: الاستمرار في تطبيق القاعدة الاثني عشرية أم صدور الموازنة بمرسوم؟
التيني تعتبر انّ المطلوب اليوم اولا ان تنكب لجنة المال والموازنة على درس مشروع موازنة العام 2024 واجراء التعديلات اللازمة عليه والتي تضمن حقوق المواطنين وتصون المال العام، وان تحيل المشروع النهائي الذي تقرّه الى الهيئة العامة من دون ابطاء او تأخير. ثانياً، ان تصوّت الهيئة العامة للمجلس النيابي على المشروع قبل نهاية العام 2023.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك