كتب علي نور الدين في "المدن":
في أواخر العام الحالي، من المفترض أن يتم الإعلان عن نتائج أعمال الحفر التي تقوم بها شركة "توتال" الفرنسيّة، في البلوك رقم 9 اللبناني. وعلى هذا الأساس، سيتبيّن مدى جديّة الحديث عن توفّر كميّات تجاريّة من الغاز في هذا البلوك، الذي يصفه وزير الطاقة والمياه وليد فيّاض بالبلوك "الواعد جدًا"، حسب المسوحات الموجودة بحوزة الوزارة. توفّر الكميّات التجاريّة، هو الشرط الأوّل للاستفادة من غاز "حقل قانا"، إلا أنّ تحقيق هذا الشرط لا يعني بالضرورة الانتقال فورًا إلى مراحل الاستثمار التالية، أي تطوير الحقل ومن ثم الاستخراج.
الشرط الثاني، كما يشير العارفون بطبيعة القطاع، هو توفّر فرص تسويق الغاز وبيعه، قبل تورّط الشركات البتروليّة الثلاث بالإنفاق على مراحل الاستثمار المقبلة. وهذه الفرص، لا يمكن تقييمها بمعزل عن المشهد الإقليمي الأوسع، المرتبط بخطوط إمداد مصادر الطاقة وأسواق بيعها، وتنافس الدول لضمان مصالحها في هذا المجال. على هذا المستوى، يستعرّ السباق -وفي هذا الوقت بالذات- بين القوى الإقليميّة المؤثّرة في سوق الغاز، وفي طليعتها إسرائيل، التي تلعب الآن دورًا قياديًا في رسم خطوط إمداد الغاز الإقليميّة. أمّا لبنان، فيبدو غائبًا عن هذا المشهد بشكل تام، ما يُوحي بأن الخطّة المُضمرة هي الإلتحاق بالمشاريع القائمة والمرسومة، بعيدًا عن "حُرمة" التطبيع مع إسرائيل. وعندها، سيكون هناك ما يكفي من مخارج للتبرير.
إعادة رسم خطوط إمداد الغاز الإقليميّة
للدلالة على السباق الإقليمي المستعر حاليًا، في مجال رسم خطوط إمداد الغاز، تكفي الإشارة إلى زحمة التطوّرات التي حصلت على مدى الأيّام القليلة الماضية.
فخلال الأسبوع الماضي، أشارت وسائل الإعلام الإسرائيليّة إلى أنّ حكومة نتنياهو بدأت بدراسة مشروع خط الأنابيب الإسرائيلي التركي، قبيل الزيارة التي ينوي نتنياهو القيام بها إلى تركيا. هذا الخبر، سرعان ما تبعه يوم الأحد الماضي نبأ اتصال وزير الطاقة التركي ألب أرسلان بيرقدار مع نظيره الإسرائيلي يسرائيل كاتس، الذي هدف تحديدًا لدراسة "فرص التعاون الإقليمي في مجال الطاقة"، تحضرًا لزيارة نتنياهو المنتظرة لتركيا.
والحديث هنا عن خط الأنابيب الإسرائيلي التركي ليس تفصيلًا صغيرًا في سوق غاز شرق المتوسّط، بل سيمثّل تحوّلًا ضخمًا في خطوط الإمداد القائمة حاليًا. فاستحداث هذا الخط، سيمكّن إسرائيل من تصدير غازها عبر الأنابيب لأوروبا، بعد ضخّه إلى تركيا، بالنظر لاتصال شبكة الغاز التركيّة بمثيلتها في أوروبا. وهذا ما سيمثّل خيارًا أكثر جاذبيّة -من ناحية الكلفة- من تسييل الغاز الإسرائيلي في مصر وشحنه بالبواخر إلى أوروبا، كما يحصل الآن. لا بل تراهن إسرائيل على التحوّل إلى مركز لإعادة تصدير الغاز المصري نفسه إلى تركيا، ومن ثم أوروبا، بوجود الربط القائم أساسًا بين مصر وإسرائيل بأنابيب الغاز.
بالنسبة لأردوغان، سيتكامل المشروع مع رؤيته لتحويل تركيا إلى مركز إقليمي لتجميع الغاز، ومن ثم تصديره إلى أوروبا، بالاستفادة من انحسار إمدادات الغاز الروسي إلى الدول الأوروبيّة. وهذا المشروع التركي الطموح، كان قد تلقّى دفعًا استثنائيًا يوم أمس الإثنين، في اللقاء الذي جمع أردوغان ببوتين نفسه، حيث جدّد بوتين اهتمامه بفكرة تحويل تركيا إلى "مركز للغاز" في القريب العاجل، ما سيسمح لروسيا بتصدير غازها إلى تركيا بدل تصديره إلى دول الاتحاد الأوروبي مباشرة. أمّا الاتفاق على تسوية العمليّات التجاريّة بين البلدين بالعملات المحليّة، فسيسمح لأردوغان بتسديد ثمن الغاز الروسي المستورد بالليرة التركيّة، مقابل تحصيل ثمن بيعه بالأنابيب أو بعد تسييله بالعملة الصعبة.
إسرائيل تنوّع خياراتها
لكن في الوقت نفسه، لا يبدو أن إسرائيل ترغب فعلًا بحصر رهاناتها بالدور التركي. فيوم أمس الإثنين، اجتمع نتنياهو بنظيره اليوناني والرئيس القبرصي، لمناقشة إمكانيّة ربط حقول الغاز الإسرائيليّة بقبرص، تمهيدًا لتسييل الغاز الإسرائيلي هناك وشحنه إلى أوروبا.
وفي حال تم السير بهذا المقترح، قد لا تحقق إسرائيل وفرًا ماليًا، مقارنة بخيار تسييل غازها في مصر كما يجري الآن، إلا أنّها ستكون قد خففت من ارتهانها لمصر في عمليّة تصدير الغاز. مع الإشارة إلى أنّ الخيار الأجدى ماليًا بالنسبة لإسرائيل سيبقى العثور على طريقة لتصدير الغاز بالأنابيب مباشرة، بدل تسييله، كما يقترح أردوغان في مشروعه.
في خلاصة الأمر، من المفترض أن يتم البت بمشروع الربط الإسرائيلي-القبرصي خلال فترة تتراوح بين ثلاثة وستّة أشهر، كما أشار نتنياهو نفسه يوم أمس الإثنين. في المقابل، يندفع أردوغان بكل قوّته لإغراء إسرائيل ومنافسة المشروع القبرصي، من خلال التشديد المتكرّر على عامل الجدوى الاقتصاديّة الذي يلعب لصالحه.
لكن بمعزل عن الجانب المرتبط بالجدوى الاقتصاديّة، يبدو أن لإسرائيل حسابات سياسيّة موازية للحسابات الاقتصاديّة. فالسير بمشروع أردوغان سيرهن قدرة إسرائيل على تصدير الغاز بعلاقاتها مع دولتين ذات أغلبيّة مسلمة، هما مصر التي تسيّل الغاز الإسرائيلي حاليًا، وتركيا بعد ربطها بحقول الغاز الإسرائيليّة. وهذا ما يفسّر حرص نتنياهو على إبقاء الخطوط مفتوحة مع الجانب القبرصي في الوقت الراهن، بخصوص خطوط إمداد الغاز.
لبنان يتفرّج
في مقابل كل هذه التطوّرات التي تسارعت خلال الأيام الماضية، ما زال لبنان في موقع المتفرّج. فكما هو معلوم، من المبكر حاليًا حسم الخيارات، بخصوص الطريقة المثلى لتصدير الغاز أو استعماله محليًا، في حال العثور على كميّات التجاريّة. إلا أنّ الدولة اللبنانيّة تبدو حاليًا مستقيلة تمامًا من مهامها، على مستوى دراسة السيناريوهات المختلفة، والبحث في الخيارات المتاحة في حال تحقق كل سيناريو.
كما تبدو الدبلوماسيّة اللبنانيّة غائبة تمامًا عن المشهد، من جهة تتبّع الصفقات التي يجري الإعداد لها، بخصوص خطوط إمداد الغاز في شرقي المتوسّط، بالرغم من تداعيات هذه التطوّرات على قطاع الغاز اللبناني. أمّا الأهم، فهو أن وزارة الطاقة والمياه ما زالت بعيدة عن إعداد الدراسات التمهيديّة، التي تسمح فهم جدوى وتداعيات كل خيار يمكن اعتماده لبيع الغاز، في حال العثور عليه.
الانكفاء اللبناني عن هذا المشهد، يوحي بأن الخطة المضمرة والمتفق عليها هي ترك المسألة لشركة "توتال" بشكل تام، للبحث عن الطريقة الأمثل لبيع الغاز، وإن كان ذلك عبر المشاريع الإقليميّة القائمة أساسًا. وهذا الخيار سيعني عمليًا إسقاط "حرمة التطبيع"، نظرًا لدور إسرائيل الحالي في رسم خطوط الإمداد الإقليميّة الأساسيّة. أما المخرج والتبرير، فسيكون حاضرًا من خلال نيل الدولة اللبنانيّة حصّتها من الأرباح مباشرة عبر شركة "توتال"، واعتبار صفقات البيع المقبلة مسألة تخص الشركة الفرنسيّة وحدها، بوصفها مالك الغاز المُستخرج بعد تسديد حصّة الدولة اللبنانيّة. وهذا الإخراج هو تحديدًا ما تم الاعتماد عليه عند ترسيم الحدود البحريّة، حيث ضمنت إسرائيل حصّتها من حقل قانا بموجب عقد مباشر مع "توتال"، لتصبح شريكًا في الحقل من دون التعاقد مباشرة مع الدولة اللبنانيّة.
أخيرًا، تجدر الإشارة إلى أنّ الجانب اللبناني كان يمكن أن يراهن على خيارات أخرى، مثل استخدام الغاز المُستخرج محليًا. إلا أنّ خيارات من هذا النوع كانت تستلزم وجود استثمارات في البنية التحتيّة المحليّة وقطاع الطاقة، كما كانت تستلزم رؤية اقتصاديّة تضمن استفادة القطاعات المنتجة من مصدر الطاقة المستجد. وكل هذه الفرص، تبدو متعذرة اليوم، في ظل الانهيار الاقتصادي الحاصل، وبغياب أي خطّة تعافٍ ترسم معالم الاقتصاد المحلّي الذي تريد الدولة اللبنانيّة بناءه. أمّا تصدير الغاز عبر تسييله في محطات لبنانيّة خاصّة، فسيحتاج إلى استثمارات ضخمة لن تتوفّر إلا بعد تطوير المزيد من حقول الغاز، لتأمين الجدوى الاقتصاديّة لهذا النوع من الخيارات.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك