كتبت زيزي إسطفان في "نداء الوطن":
في حين تعلو صرخات مختلف القطاعات الاقتصادية وتُبحّ اصوات مطلقيها عبثاً، تبقى صرخة أصحاب مكاتب النقل السياحي مكبوتة مخنوقة في الصدر لا تكاد تسمع. الحافلات السياحية، البولمان، الباصات وحتى " اوتوكارات" المدارس كلها متوقفة، رابضة في أرضها تنتظر فرجاً لا يبدو قريباً. السياحة في حالة غيبوبة كاملة ومعها وسائل النقل السياحي التي كانت في ما مضى شرياناً يبث الحياة في المناطق اللبنانية ويحتضن السياح ودولاراتهم الـ "فريش" ويحوّلها دماً يحيي عروق الوطن.
قطاع النقل السياحي يئنّ بصمت على الرغم من الوجع الكبير الذي يعانيه؛ قطاع مشلول متوقف تماماً عن العمل منذ شباط 2020 بعد تباطؤ وتيرته بدءاً من انتفاضة تشرين وما تلاها من أحداث. توقف قسري ألغى كل مدخول لكنه لم يعفِ أصحاب الباصات والحافلات السياحية من تعهداتهم المالية تجاه موظفيهم وسائقيهم ومن إنفاق مبالغ كبيرة على الآليات المتوقفة وتكبّد خسائر فادحة. الجهات المختصة بدورها لم تخفف عنهم اذ لم تعفهم من دفع الميكانيك الذي لا يزال يسبّب إشكالية لم تعالج بعد ولا من اشتراكات الضمان ولم تؤمن حتى جدولة الأقساط المترتبة عليهم للمصارف.
أعباء بلا إعفاءات
المشاكل تتراكم تاركة القطاع السياحي في شبه موت سريري. يقول السيد وليد عاقوري، وهو صاحب شركة نقل سياحي ونقل عام، أن العمل كان جارياً لتأسيس نقابة تجمع أصحاب مكاتب النقل السياحي وقد تم تقديم الأوراق الضرورية الى وزارة العمل للحصول على موافقتها لكن الأمور توقفت نتيجة استقالة الحكومة. منذ بداية شهر آب الماضي رفع هؤلاء الصوت مع كل النقابات السياحية في اجتماع جرى في فندق بريستول لمساعدة القطاع واعطوا وزارة السياحة مدة شهر للاستجابة لمطالبهم على أن يقوموا بحركة تصعيدية بعد ذلك، لكن انفجار المرفأ اطاح بكل تحركاتهم لتأتي بعده الأزمة المالية وتزيد الأوضاع تدهوراً. يؤكد عاقوري أنهم طالبوا الدولة بإلغاء رسوم الميكانيك وصدر قرار بإلغاء سنة من أصل اثنتين لكل اللوحات العمومية لكن حتى الآن يبدو القرار غير واضح ما إذا كان يشمل اللوحات السياحية الخضراء وفق ما يقول السيد فادي بارود صاحب إحدى شركات النقل السياحي. فهذه اللوحات لا تعتبر عمومية ولها وضع خاص. وهنا تلعب شطارة صاحبها دورها في الحصول على إعفاء حيث أن الجدل لم يحسم بعد. واصحاب المكاتب كما يؤكدون لم يدفعوا الميكانيك بعد ولا نية لهم في ذلك أولاً لعدم توافر القدرة المالية على الدفع ومن ثم لأنهم مصرّون على الإعفاء.
وما هذا سوى غيض من فيض ما يواجهه أصحاب مكاتب النقل السياحي من مشاكل. فكثر منهم لا يزالون يدفعون أقساط الباصات التي اشتروها، الى المصارف، وبحسب تعميم مصرف لبنان فإن الباص المسجل باسم شركة سياحية يتم دفع القسط المستحق عليه بالدولار وفق سعر المنصة اي 3900 ليرة. والأدهى من ذلك يؤكد عاقوري ان من يملك حساباً مصرفياً بالدولار يتم الحجز على حسابه لتحصيل الأقساط المستحقة...
وفي هذا السياق أيضاً يشرح صاحب المكتب ان المصرف يلزم أصحاب الباصات التي يتم تقسيط ثمنها بشركة تأمين معينة وهذه الشركة بدورها تفرض أعتماد سعر الدولار وفق المنصة وأحياناً بتسعيرة أعلى ما يجعل القسط الشهري للباص يتزايد ليحمّل صاحبه أعباء مالية إضافية في حين ان الباص متوقف كلياً. كذلك ثمة مشاكل مع الضمان الاجتماعي الذي لا يمنح الشركة ما يعرف بالتصريح الإسمي السنوي ما لم تكن قد سددت كل مستحقاتها.
هذه الصرخة يطلقها أصحاب المكاتب في وجه المعنيين لكن لا حياة لمن تنادي كما يقولون. والمستحقات المالية كثيرة فالتأمين الإلزامي مثلاً لا مهرب منه لكنهم في المقابل لم يجددوا هذه السنة التأمين الخاص بالباصات كونها متوقفة وكون العديد من شركات التأمين لا تعترف بالأعطال الطارئة إذا كان تسديد أقساط التأمين يتم بالليرة اللبنانية.
قطاع مشلول ومتروك
في لبنان اليوم حوالى 35 مكتباً مرخصاً يعمل في كل منها ما لا يقل عن 5 موظفين بين سائقين ومساعدين وقد يرتفع العدد أكثر في المواسم السياحية وتضم المكاتب ما يقارب 300 باص مرخص وثمة ما يفوق 50 شخصاً يمتلكون باصات عمومية تعمل في السياحة ما يجعل القطاع واسعاً ويعيل عدداً كبيراً من العائلات. ويجب التفريق بين الباصات المخصصة للسياحة والمسجلة في شركات مرخصة وبين الباصات العمومية التي تعمل في السياحة. كان اتكال هذه المكاتب على السياح الأجانب الذين يقصدون لبنان ليتجولوا في مناطقه وكان هذا النوع من السياحة يعود بمردود كبير بالدولار بات اليوم مفقوداً تماماً. أما الرحلات السياحية الداخلية التي يقوم بها اللبنانيون فلا يعوّل عليها كثيراً إذ لا تؤمن إلا مردوداً بسيطاً لأصحاب المكاتب ولا سيما بوجود منافسة كبيرة مع الباصات العمومية العادية التي يمكن استئجارها بكلفة أقل. واليوم ومع تخصيص قدرة استيعابية لا تتعدى 50% اذ إن تسيير الرحلات داخل لبنان بات خاسراً خصوصاً مع تجنب المواطنين هذا النوع من الرحلات في باصات مقفلة.
أما الرحلات الى البلدان المجاورة مثل تركيا والأردن أو سوريا فمتوقفة كلياً منذ الحرب السورية وقد حاول أصحاب المكاتب فتح طريق بحري نحو تركيا وإرسال باصاتهم بالسفن بحراً من طرابلس لكن تبيّن ان كلفة الشحن والتأمين عالية لا توازي المردود المتوقع وبات اللبنانون يفضلون السفر جواً الى تركيا كونه أرخص وأسرع.
كلفة الباصات المتوقفة
باصات البولمان المرتبطة بالسياحة والسفر والزمن الجميل متوقفة في باحاتها. لكن تكلفة صيانتها حتى اثناء توقفها تبقى مرتفعة وفق ما يشرحه لنا السيد فادي بارود، كما أن إعادة تشغيلها استعداداً لموسم سياحي مقبل لا يزال مشكوكاً بأمره، هي الأخرى تتطلب مبالغ كبيرة بالدولار. فالبولمان المتوقف بحاجة مثلاً الى إعادة شحن بطاريته او استبدالها وكذلك الى تعبئة الغاز من جديد في المكيف وقد ازداد سعر العبوة 90%، هذا عدا الإطارات وغيار الزيت والغسيل وكلها باتت كلفتها ناراً من دون الحديث عما يمكن ان يحتاجه الباص من تصليح وقطع غيار تحلّق اسعارها في الأعالي. هذا من دون ذكر وسائل التعقيم الذي يجب اتباعها في كل رحلة ومن ثم تنظيف الباص في نهاية كل مشوار ما يجعل كلفة التشغيل أعلى من المردود خصوصاً مع قدرة استيعابية تصل الى النصف وارتفاع سعر صفيحتي البنزين والمازوت حوالى 10000 ليرة لكل منهما. ويؤكد بارود أنه كلما ازداد عدد الباصات في الشركة ازدادت الخسارة الناجمة عن كلفة الصيانة وإعادة التشغيل، هذا من دون ذكر ما يمكن أن يؤول إليه الأمر إذا رفع الدعم عن المشتقات النفطية كما يشاع. لكن على الرغم من كل شيء يبقى التعويل على استجابة وزارة السياحة لنداءات القطاعات السياحية بغية فتح البلد وتأمين الظروف المؤاتية للسياحة ولا سيما أن لبنان بات من أرخص الوجهات وقادراً على استقطاب السياح الذين يدخلون العملة الصعبة إليه متى فكّ السياسيون أسره وتخلوا عن ذلك "اللوك داون السياسي" الذي يفرضونه على البلد.
اشتقنا لعجقة "الأوتوكارات"
بالتوازي مع قطاع النقل السياحي ثمة قطاع آخر مرتبط به وهو النقل المدرسي او " الأوتوكارات" التي اعتادت أن تعجق طرقاتنا كل صباح وعند الظهيرة وكانت تشكل عماد الحركة المدرسية في المناطق. هذا القطاع غائب منذ شباط الماضي 2020، وقد استعاد في يقظة عابرة بعض حركته في شهر كانون الأول ليعود بعدها الى سباته العميق مع عودة التدريس عن بعد. فالأوتوكارات التي كان يشكو الأهل من أقساطها أيام الخير لا شك أنها ستشكل عبئاً ثقيلاً متى فتحت المدارس أبوابها يصعب على الأهل تحمل تكاليفه. ويقول السيد عاقوري إن بعض المدارس تملك حافلاتها الخاصة وبعضها الآخر يستأجر خدمات الباصات العمومية او باصات مكاتب النقل ويُلزِّم النقل عنده الى متعهدين يبغون الربح من وراء عملهم هذا. لذا مع كل ما تقدم من كلفة الصيانة والتعقيم لا مصلحة لأصحاب الباصات بتسيير حافلاتهم، خصوصاً وأن عدداً كبيراً من الأهالي لم يدفعوا بدل نقل عن الفصل الثاني من السنة الدراسية الماضية على الرغم من تسيير "الأوتوكارات" لمدة شهرين تقريباً. وحين جربت المدارس وأصحاب الحافلات تسييرها من جديد في كانون الأول 2020 وجدوا في الأمر خسارة اكبر من الربح لذلك تجنبت مدارس كثيرة تسيير حافلاتها وطلبت من التلامذة تدبر أمورهم.
هو قطاع مضروب إذاً ينتظر رحمة الدولة ومسؤوليها ليعيد تشغيل محركاته وضخ الحياة على طرقاتنا. فقد اشتقنا لعجقة الباصات والأوتوكارات والبولمان، اشتقنا للرحلات، اشتقنا لرؤية السياح تحيي فينا ذكريات زمن آخر كأنه على بعد سنوات ضوئية من يومنا هذا.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك