كتبت ملاك عقيل في "أساس ميديا":
لا قعر للقعر الذي يتقوقع داخله اللبنانيون منذ أشهر، وثمّة من يحفر أكثر كي نغرق أكثر. الأرض تغلي واليوم يبشّر الغاضبون بـ"الاثنين الكبير" في الشارع. حتى حبّة "أسبيرين الاعتكاف" التي اقترحها رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب لا تفي غرضها في جسد الدولة المتحلّل. أصلاً دياب نفسه متّهم بالاعتكاف منذ استقالة حكومته وعدم "تصريف" أمور الكارثة بما يقي الداخل شرّ اقترابه من عتبة الجحيم.
تَجاوَزَ التقصير في تشكيل الحكومة كل المبرّرات التي يسوّقها المعنيين به. بات الأمر يرتقي إلى مستوى خيانة شعب يصدف أنّه سلّم قياداته السياسية على مصيره فارتأت تصفية حساباتها فوق رأسه، وأخذت مداها في التناحر أمامه فيما أبناء "سويسرا الشرق" يتصارعون على كيس حليب وغالون زيت ويقدّمون واجب الطاعة الكاملة لدولار السوق السوداء.
رَقّ "قلب" المنصات ولم يَرف جفن السلطة على "الملقّحين" بالأرض تحت وطأة هول الفاجعة المالية والسياسية. فقد توقّفت منصات خاصّة بعد ظهر السبت عن تحديد سعر الدولار في السوق السوداء نتيجة ارتفاعه الجنوني، مع رسالة ودّية "لا نريد المشاركة بـ"الكارثة".
توقّفت المنصّات لبعض الوقت ثم استأنفت نشاطها... ولا سقف لجنوح الدولار الذي "أشعَلَ" الأسعار داخل المحال التجارية و"فلَت الملَق" الى حدّ التسعير العشوائي.
كان المشهد فظيعاً ومذلّاً في الساعات الماضية: موادٌ غذائية مدعومة تخرج من المستودعات بالقطارة ويتهافت عليها المواطنون كما لو أن البلد على حافة المجاعة. في المقابل، اشتغلت آلات التسعير للتلاعب بأسعار موادٍ استورِدَت على دولار 7 و 8 أو 9 آلاف ليرة. وفي لحظة ضُبِطت على سعر منصّة "الاشباح" أيّ على سعر "العشرة آلاف وطلوع".
عملياً، توافرت العديد من مؤشرات الدخول "الآمن" نحو الجحيم. باتت الأمور خارج السيطرة تماماً. حكومة مستقيلة على شفير الاعتكاف وسقوط كلّ محاولات ولادة الحكومة الجديدة. دولار مدعوم يصل الى أيادي التجّار الجشعين أصحاب الاحتكارات فيتفنّنون في مراكمة الأرباح وإذلال المواطنين. مصارف "تشفط" الدولار من الأسواق ومنظومة مترابطة بين المصارف والصرّافين والسوق السوداء تتكفّل بقيادة القرار المالي للدولة الغائبة عن الوعي.
ولا يُتوقع أن يفي بالغرض التعميمُ الذي أصدره النائب العام التمييزي القاضي غسان عويدات إلى الأجهزة الأمنية "إجراء الاستقصاءات اللازمة والضرورية لملاحقة كافة المتلاعبين والصرّافين بالعملة الوطنية والمضاربة غير المشروعة وتوقيفهم ومعرفة الجهات المحرّضة".
يعترف وزير في حكومة تصريف الأعمال: "لقد حاولت الحكومة جهدها بالتنسيق مع حاكم مصرف لبنان والصيارفة من الفئة الأولى وكافة الأجهزة الأمنية إيجادَ حلّ للجم السوق السوداء إلى درجة طلب الرئيس دياب من رياض سلامة ضخّ أموال "فريش" في السوق لكن كل المحاولات لم تنفع، والحاكم يتحصّن خلف قانون النقد والتسليف. لا قدرة لهذه الحكومة أن تفعل شيئاً لأن الأمر يتطلّب حكومة جديدة ببرنامج انقاذي واضح وبغطاء دولي".
يتزامن كل ذلك مع تحرّكات احتجاجية في أغلبية المناطق "رمزيتها" تطغى على أعداد المشاركين فيها. فقد شَغّلت معظم الأحزاب مفاتيحها لإنزال عيّنة من "أتباعها" بهدف بعث رسائل سياسية في الاتجاهات كافة، وطالت بشكل مباشر رئيس الجمهورية. وهو ضغط يتماهى مع أجندة كلّ من الرئيس نبيه بري وسعد الحريري ووليد جنبلاط والقوات والكتائب ورياض سلامة.
وبدا لافتاً في هذا السياق عدم نفي "حركة أمل" الاتّهامات المنسوبة لها بتوجّه عدد من مناصريها على دراجات نارية نحو القصر الجمهوري للاعتراض على التأخير في تشكيل الحكومة وتدهور سعر الليرة. إذ تكفّلت وسائل الإعلام بتأكيد عدم حصول ذلك.
بل إن مقدّمة نشرة أخبار تلفزيون "nbn" قالت إنّه "ليس هناك من ينهض من سباته العميق لإطفاء لهيب الأسعار والانهيارات المعيشية. ولم يبقَ أمام الموجوعين سوى افتراش الشارع المفتوح على غضبٍ مُشتعل"، وقد اكتفى كل من "أمل" والحزب بإصدار بيان نفيا فيه أي علاقة لمناصريهما بأعمال الشغب.
تقريباً يبدو المشهد كبرج بابل لبناني. فريق العهد يتّهم "المنظومة" إيّاها بتحريك الشارع ضده وانضمام "البلطجية" إليه وخلق مشكل عوني - شيعي وصولًا الى "تأكيد حصول انقلاب ضد ميشال عون من عصابات الطائف من دون ردّة فعل من حزب الله". والأحزاب المعارِضة لعون وجبران باسيل ترفع عنها التهمة كون "الشارع لم يعد يحتمل وهو يأتمر بجيبته الفارغة والبطون الخاوية وليس بأوامر حزبية".
أمّا حزب الله فهو في صلب الاتّهام بتحريك عناصر محسوبة عليه، خصوصاً أن السيد حسن نصرالله سبق ودعا شارعه إلى أن يبقى متأهّباً "حين تدعو الحاجة". وبدا لافتاً تصريح نائب التيار الوطني الحر زياد أسود قائلاً: "أنا غير مقتنع أن هناك خلافاً بين الثنائي الشيعي بخصوص الرئيس عون وإلا كيف يقبل الحزب بما يقوم به بري".
لكن ما شهدته الساعات الماضية ترويه مصادر أمنية بالتالي: "لقد حصل تحريك واضح للشارع الشيعي في الأيام الماضية في الضاحية الجنوبية وبيروت والجنوب، لكن ليس الشارع الحزبي بالتأكيد. وقد ثبُتت مشاركة متظاهرين يدورون في فلك حركة أمل مع قبّة باط من الحركة، وحزب الله أوعز داخلياً بعدم الاحتكاك مع أيّ من المتظاهرين. وفعلياً بدأت تحرّكات هؤلاء منذ الأحد الماضي لكن بشكلٍ محدود بالتزامن مع تحرّكات مماثلة في الشمال والبقاع وطريق الجنوب الساحلي وجل الديب والزوق بقبّة باط أيضاً من تيار المستقبل ووليد جنبلاط والقوات والكتائب. وانضمّت إليهم مجموعات يسارية خصوصاً في الجنوب وبيروت. كما رُصِدَت مشاركة نازحين سوريين في التحرّكات من دون معرفة هوية مشغّليهم، إضافة إلى مشاركة محتجّين في التحرّكات داخل بيروت، جاؤوا من خارج العاصمة".
وتضيف المصادر: "لكنّ أمل وحزب الله وجدوا صعوبة في ضبط وتيرة بعض التحرّكات التي خرجت عن السيطرة في بعض الأحيان".
وتؤكّد المعلومات في هذا السياق أنّ "الرئيس بري تدخّل في اليومين الماضيين بهدف التهدئة الميدانية منعاً لانفلات الأمور خصوصاً بعد استخدام المتظاهرين عوائق لإققال الطرقات في عمق مناطق النفوذ الشيعية".
وسجّل استياء من الطرف الشيعي من إقفال طريق الجنوب الساحلي مجدداً، في وقت يؤكّد مطلعون أنّ "الشارع لن ينفجر بقوّة مجموعات الثورة وحدها التي لا يزال وهج كورونا يقيّد تحرّكها إضافة الى خمول بعضها، بل الأحزاب هي الصاعق الأساس للانفجار الكبير، وحتى اللحظة لم يتمّ استخدامه بشكل مباشر، وما يحصل لا يخرج عن إطار إرسال الرسائل باتجاهات مختلفة".
أما الجيش فقد تحرّك بين حدّين، وفق أوساط مطلعة، وبخلاف ما روّج عن وقوفه على الحياد: الأوّل هو استيعاب التحرّكات وتجنّب الاصطدام مع المتظاهرين، خصوصاً أولئك المشاركين بشعارات مطلبية واضحة ومحقّة. والثاني هو منع الاحتكاكات الطائفية والمناطقية وقطع الطرقات، ولجم الإشكالات التي يمكن أن تقود إلى الانزلاق نحو الفوضى والفتنة الأهلية".
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك