حين يقاربُ حبرٌ أعظمُ شتاءَ حبرِيّتِهِ، يكثُرُ الحديثُعنإرْثِهِ وما حققَّه في سنين تولّيه السُّدَّةَ البابويّة. كما تَكثُرُ التَّكَهُّنَاتُ حولَمَنْسيخلِفُهُ وفي أيّ اتجاهٍ سوف ينحى بالكنيسةِ الكاثوليكيّة. ويحظى هذا التساؤلُ بأهميّةٍ كبرى خصوصًا عندما نتكلّمُ عن حبريّةٍ كحبريّةِالبابا فرنسيس، تميّزت بالجرأةفي مقاربتِهاللمواضيعِالأكثر جدليّةًالتي تُواجِهُ كنيسةَ الألفِ الثالث، وبدعوتِها لكنيسةٍ شاملةٍ، حوارِيّة. فهل نجح البابا فرنسيس في تكريسِ توجّهٍ جديدٍ للكنيسةِ الكاثوليكيّةِ أم أنّخَلَفَهُ، القبطان الجديد لسفينةِ بطرس، سيديرُ الدفّةَ في اتّجاهٍ مغايرٍ؟ وما هي المواضيعُ الجدليّةُ التي واجهَها البابا فرنسيس؟ نستقي الإجابةَ من كتابٍ للأكاديميِّ والكاتبِ الكنديّ مايكل و. هيغينز صدرَ سنة 2024 بعنوان: "اليسوعي المزعج" - لوحةٌ شخصيّةٌ للبابا فرنسيس".
“The Jesuit Disruptor: A Personal Portrait of Pope Francis”
بعد أنْيتكلّمَ هيغينز عن تأثّرِ البابا فرنسيس بأربعِ شخصيّاتٍ كنسيَّةٍ طَبعَتْ فكرَهُ اللاهوتيّ وهي، القدّيسُ فرنسيس الأسّيزي، القدّيسُ اغناطيوس دي لويولا، اللاهوتيّ توماس ميرتون، واللاهوتيّ برنارد لونيرغان، يعرض نقاطًا عدّة (اخترتُ منها ثلاثًا)، "أزعج" بها البابا النظامَ الكنسيَّ الكاثوليكيَّ الحاليّ ودفعَ الكنيسةَ، إلى الحوارِ حولَ هذه النقاط، في مراجعةٍ نقديّةٍ ذاتيّة بعيدًاعن التصلُّب الفكريّ. إنَّ هذه الأفكارَ الثلاث لا تختصرُ فكرَ البابا فرنسيس ولاهوتَه، ولا تلخّصُ حبريَّتَه وإرثَه، إلّا أنّها تُعتبَرُ الأكثرَ التباسًا وإثارةً للجدل، نذكر منها:
1. المِثليّة الجِنسيّة
لا ينحى البابا فرنسيس عن تعليمِ الكنيسةِ الكاثوليكيّةِ الرسميّ في موضوعِ "المِثلِيّة الجِنسيّة"، الذي أكّد "انها تتعارضُ والشريعةِ الطبيعّية. إنّها تُغلقُ الفعلَ الجنسيَّ على عطاءِ الحياة. فهيَ لا تتأتّى من تكاملٍ حقيقيٍ في الحبِّ والجنس. ولا يمكنُ الموافقة عليها في أيِّ حالٍ من الأحوال ." غيرَ أنّه ذكّرَ بفقرةٍ في "التعليم المسيحيّ للكنيسة الكاثوليكيّة"، تؤكّد على أنَّ:"هذه النزعة، المنحرفة موضوعيًّا، هي بالنسبة إلى مُعظمِهِم مِحنَة. فيجِبُ تقبُّلُهم باحترامٍ وَشَفَقَةٍ ولُطفٍ. ويجبُ تحاشي كلّ علامةٍ من علاماتِ التمييزِ الظالمِ بالنسبةِ إليهِم. هؤلاءِ الأشخاص مدعُوُونَ إلى تحقيقِ مشيئةِ الله في حياتِهم، وإذا كانوا مسيحيّين، أن يَضُمُّوا إلى ذبيحةِ صليبِ الربِّ المصاعبَ التي قد يُلاقُوَنها بسببِ وَضعِهِم" .
ولعلَّ جوابَ البابا فرنسيس في تمّوز 2013 على متنِ الطائرةِ الّتي كانت تُقِلُّهُ منَ البرازيل بعدَ اختتامِ "اليومِ العالميِّ للشبيبة"، قد أصبحَ الأشهَرَ(والأزعَج)، حيثُ قالَ "إذا كانَ هُناكَ شَخصٌ مثليُّ الجِنس، يَسعى إلى الله، ويتحلَّى بالإرادةِ الخَيّرَةِ، فَمَن أنا كي أحكُمَ عليهِ؟"
لقد دعا البابا إلى التمييزِ بين الفعلِ الشائنِ وبين الشخصِ الّذي يَرتَكِبُهُ، وبالتالي إلى إدانة الفِعل لا الشَخص. وفي سنةِ 2014، دعا إلى سينودُس استثنائيّ حولَ "العائلة"، استغرَقَتْ أعمالُهُ سَنَتَيْن، واتّسمَ بتشجيعِ المشاركينَ على التكلُّمِ وإبداءِ الرأي، من دونِ خوفٍ أو حَيَاء. في نهايةِ هذا السينودس سنة 2016، أصدرَ البابا الإرشادَ الرسوليَّ " فَرَح الحُبّ - Amoris Laetitia".
وفي حينِ ذَكَرَتِ الفقرةُ251 إنَّهُ لا يُمكِنُ المُساواة بينَ الزواجِ المسيحيِّ، أي تدبير الله حولَ الزواج والعائلة، وبينَ الاتِّحاداتِ المرتبطةِ بأشخاصٍ مثليّين، شدّدتِ الفقرات 307 حتّى 312 على "منطقِ الرحمةِ الرعويّة". في الفقرةِ 312 يحذِّرُ البابا من "تطويرِ تعليمٍ أدبيٍّ بَارِدٍ، ونَظَرِيٍّ بحتٍ، في الَتَعامُلِ معَ القضايا الأكثرِ حساسيَّة، وَيَضَعُنا بدلًا مِن ذَلِكَ في سِياقِ التَمييزِ الرعويِّ المُفعَمِ بالحبِّ الرحيم، الذي يجعَلُنَا مستعدِّينَ دائمًا لأن نفهَمَ، ونَغفِرَ، وَنُتَابِعَ، وَنَرجُوَ، وقبلَ كلِّ شيءٍ نسعى لإدماجِ الآخرين. هذا هو المنطقُ الّذِي يجبُ أَن يسُودَ في الكنيسةِ، من أجلِ "عيشِ خِبرةِ انفتاحِ القلبِ على أُولَئِكَ الذينَ يعيشونَ في الضواحي الوجوديَّةِ الأكثرِ نأْيًا"".
في الخلاصةِ، لم يشأ البابا أَنْ يكونَ أيُّ إنسانٍ مؤمنٍ خارجَ الكنيسة، وبعيدًا عنها، فجعلَ من نفسِهِ جِسرًا للعُبُور، يُقَرِّبُ المسافاتِ لكلِّ مهمّشٍ، للعودةِ إلى حُضنِ الآب.
2. دورُ النساءِ في الكنيسة
على الرغم من أنَّ المجمعَ الفاتيكانيّ الثاني أصدر قرارًا مجمعيًّا مخصّصًا لرسالةِ العلمانييّن في الكنيسة، ودعا في فصلِه الثالثِ إلى أنْ"يتزايدَ إسهامُ المرأةِ في مختلِفِ مجالاتِ العملِ الرسوليّ في الكنيسة"، إلّا أنَّ تطبيقَ هذه التوصيةِ تأخّرَ كثيرًا في الكنيسةِ الكاثوليكيّة، وعلى الرغم منإصدارِ قداسةِ البابا يوحنّا بولس الثاني رسالةً رسوليّةًعن "كرامة المرأة" إلّا أنَّ المفاعيلَ التطبيقيّةَ لدعوةِ الكنيسةِ للمرأةِ إلى المشاركةِ في رسالتِها، بقيتْ محصورةً بأدوارٍ رمزيّة. على سبيلِ المثال، لم تعدّلِ الكنيسةُ الكاثوليكيّةُ قوانينَها التي كانتْ تمنعُ النساءَ من خدمةِ المذبحِوالقراءاتِ والترتيلِ حتّى سنة 1994.
هذا ولم ينحَ البابا فرنسيس عن تعليمِ البابوات السابقين في موضوع "كهنوت المرأة" وعدم قبولها للدرجات المقدّسة، لكنَّه قاربَ خلالَ حبريّتِه، موضوعَ دورِ المرأةِ في الكنيسةِ بطريقةٍ تختلفُ عن الأحبارِ الذين سبقوه، من خلالِ مساعٍ ثلاثة:
أ. أقرَّ البابا فرنسيس بالتهميشِ الحاصلِ للنساءِ في الكنيسةِ وسعى لأنْ يكونَ جسرًا للحوار، وأنْ يبقى هذا الموضوعُ "مزعجًا" للنظامِ القائمِ وحاضرًا بشكلٍ دائمٍ في معظمِ كتاباتِه وتصريحاتِه.
ب. شكّلَ لجنةَ خبراء سنة 2016 لمناقشةِ موضوعِ قبولِ نساءٍ في درجةِ الشمّاسيّة ، إلّا أنّ نتائجَ دراسةِ اللجنةِ لم تكنْ حاسمة، ممّا دفعه إلى تشكيلِ لجنةٍ من خبراء آخرين سنة 2020 لدراسة الموضوع نفسه.
ت. أقرنَ البابا فرنسيس القولَ بالفعل، وسعى لإشراكِ المرأةِ في "الإدارةِ الكنسيّة الفعليّة" من خلال تعييناتٍ ثوريّةٍ في مواقعِ القرارِ الكنسيّ. فعند إصدارِه سنة 2022 دستورًا رسوليًّا بعنوان "أعلنوا البشارة Predicate Evangelium"، أعادَ فيه هيكلةَ الكوريا الرومانيّة ، صدمَ الكنيسةَ بإعلانِه انَّ جميعَ المؤمنين، "نساءً ورجالًا"، يستطيعون أنْ يتبوّأوا مناصبَ المسؤوليّةِ والإدارةِ في مجامعِالكوريا ومجالسِها ولجانِها. وأثبتَ جدّيَّةَ هذا التوجّهِ بتعيينِه في السادس من كانون الثاني 2025 الأخت سيمونا برامبيلا، أوّلَامرأةٍ تترأّسُدائرةً من دوائرِ الكوريا، هي"دائرةُ مؤسّساتِ الحياةِ المكرّسةِ وجمعيّاتِ الحياةِ الرّسوليّة". واستتباعًا لهذه الخطوة، عيّن البابا في الخامس عشر من شباط 2025، أوّلَ امرأةٍ حاكمةٍ لدولةِ الفاتيكان، الأخت رافاييلا بيتريني. وتجدر الإشارة إلى أنَّ هذه المناصبَ كانت محصورةً بالكرادلة فقط.
3. السينودسيّة
لقد تطرّقْنا إلى التعديلاتِ الإصلاحيّةِ التي أدخلَها البابا فرنسيس على نظامِ الكوريا الرومانيّة في معرضِ حديثِنا في النقطةِ الثانيةِ عن دورِ المرأةِ في الكنيسة. ويزعَمُ هيغينز أنَّ الذين انتخبوا البابا فرنسيس بهدفِ إصلاحِ الكوريا، خصوصًا بعد حبريّةِ بنديكتوس السادس عشر، تفاجؤوا بأنَّ البابا الجديدَ لا ينوي إصلاحَ الكوريا فقط، بل الكنيسة جمعاء. لا يخشى البابا فرنسيس الفوضى والفضائح، فهو يريدُ إزعاجَ الفسادِ إنْ وُجِد، ودَفعَهُ إلى التغييرِ الحتميّ.
لقد أرادَ البابا إعادةَ المهمّشينَ والمرذولينَ والمرفوضينَ إلى الكنيسة، على أنْ تصبحَ الكنيسةُ أوّلًا، جاهزةً لاستقبالِهِم. هو يرى الكنيسةَ كـ"فعل" وليس كـ"اسم"، يريدُها ديناميكيّةً فعّالةً حيّة، لذلك اختارَ أنْ تكونَ كنيستُه "سينودسيّة ".
يعرّف البابا فرنسيس "الكنيسة السينودسيّة"، بكنيسةٍ تصغي، وتُدركُ أنَّ الإصغاءَ أكثرُ من مجرّدِ سماع، هو إصغاءٌ متبادَل... الشعبُ المؤمن، مجمعُ الأساقفة، أسقفُ روما... يصغون لبعضِهِمِ البعض، ويصغون معًا للروح القدس، "روح الحق" .
ولكي يتأكّدَ البابا أنَّ مجمعَ الأساقفةِ سيتبعُ هذا النفس السينودسي، أصدرَ سنة 2018 دستورًا رسوليًّا بعنوان "الشراكة الأسقفيّة"، الذي أكّدَ فيه التالي: "إذا منحَ الحبرُ الروماني سلطةَ التداولِ لجمعيّةِ السينودس، بحسب القانون 343 من القانون الكنسي، فإنَّ الوثيقةَ الختاميّة تصبحُ جزءًا من السلطِة التعليميةِ العاديّةِ لخليفة بطرس بمجرّدِ التصديقِ عليها وإصدارِها".
ومن ثمّ كلّلَ مسيرةَ الكنيسةِ السينودسيّة بمجمعٍ حول "السينودسيّة" استمرَّ من سنة 2021 حتّى سنة 2024، طبّقَ فيه ما أعلنَه في الدستور الرسولي "الشراكة الأسقفيّة" من خلال جعلِ الوثيقةِ الختاميّةِ جزءًا من تعليمِ الكنيسة.ورغم انتقادِ بعضِ التيّارات المحافظةِ لهذا المجمع، والتشكيكِ في جدّيةِ توجّهِ البابا فرنسيس نحو شراكةٍ أكبرَ في صنعِ القرارِ الكنسي، بقيَ البابا مصرًّا على "إزعاج" من يمثّلُ هذه التيّاراتِ والاصغاءِ للأصواتِ التي كانتْ سابقًا لا تحظى بفرصةٍ للتعبير عن تصوّرِها للكنيسةِ ورسالتِها.وتمثّلَ هذا الإصرارُ بإشراكِ سبعين علمانيًّا (نصفهم من نساء)، في أعمالِ وجلسات السينودس وإعطائهم حقَّ التصويت، وهي سابقةٌ في تاريخِ الكنيسة.
ختامًا، يبدو أنَّ السؤالَ المطروحَ حولَ إرثِ البابا فرنسيس، بعد انتهاءِ حبريّتِه، لا يراودُ المحيطين به فقط، بل البابا نفسه. فعندَ بدءِ تدهورِ حالتِه الصحّيةِ في شباط 2025، عمدَ إلى اتّخاذِ بعضِ الخطواتِ لضمانِ سلاسةِ انتقالِ السدّةِ البطرسيّة، وتجنُّبِ مخاضٍ عسيرٍ لانتخابِ البابا المقبل. فهو، على سبيلِ المثال، مدّدَ في السادس من شباط، ولايةَ الكاردينال جيوفاني باتيستا راي، كعميدٍ لمجمعِ الكرادلة، وبقرارِه هذا، تخطّى البروتوكول المعتمَد. ولعلَّ هذا التدبيرَ يهدفُ إلى أنْ يحرصَ الكاردينال المخضرمُ على حسنِ سيرِ العمليّةِ الانتخابيّةِ للبابا الجديد.
كما وأنَّ مرسومَ تعيينِ الأختِ رافاييلا بيتريني، كحاكمةٍ لدولةِ الفاتيكان، قد عجّلَ موعدَ تسلّمِها مسؤوليّاتِها في الأوّل من آذار، وقد أثارتْ هذه الخطوة تساؤلاتٍ عدّة حول ارتباطِ هذا التغييرِ في التواريخِ بوضعِ البابا الصحّي.
لقد ختمَ البابا فرنسيس الكنيسةَ بطابعِه الشخصيّ، ويتجلّى ذلك من خلال مجمعِ الكرادلة، الهيئة الانتخابيّة، التي يشكّل الكرادلةُ الذين عيّنَهم البابا فرنسيس بذاتِه حوالى الثمانين بالمئة منها. فاستمرارُ التوجُّهِ الذي أرادَه البابا فرنسيس للكنيسة، مرتبطٌ بالتزامِهِم بكنيسةٍ "سينودسيّة، منفتحةٍ على الجميع".
ويبقى المثلُ الإيطاليُّ القائل: "مَنْ دخلَ المجمعَ بابا، خرج منه كاردينالًا".
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك