لبنان بحاجة إلى كل شيء، بحاجة إلى تحقيق السيادة والاستقلال والإنقاذ والإصلاح والاستقرار والازدهار، وبحاجة إلى تطبيق الدستور والقانون والعدالة، وقد أطلق الرئيس نواف سلام على حكومته اسم "حكومة الإصلاح والإنقاذ"، مؤكداً أن "الإصلاح هو الطريق الوحيد إلى الإنقاذ الحقيقي"، ولكن ما هو غائب عن الحكومات والتداول منذ زمن بعيد هو المصالحة الوطنية بسبب تعذُّر تحقيقها فعلياً، فهل ستتمكّن هذه الحكومة من تحقيق المصالحة؟
فمن دون المصالحة لا أمل بالاستقرار الثابت والراسخ، لأن الانقسام العمودي شكل الممر لتفكُّك الدولة وتعطّل دورها، وكان يفترض أن تشكل انطلاقة الدولة بعد الحرب الفرصة لتحقيق المصالحة بطي هذه الصفحة والتأسيس للسلام بين اللبنانيين، ولكن الاحتلال الأسدي مدّد مفاعيل الحرب وأدى إلى مزيد من الانقسام والخلاف والتباعد والخوف من الآخر، وكان يفترض أن تتحقّق المصالحة بعد خروج جيش الأسد، إلا أن "حزب الله" استخدم الوسائل كلها السياسية والتعطيلية والعسكرية لإبقاء لبنان ساحة، فهل من أمل بتحقيق المصالحة بعد انتهاء مشروع "الحزب"، وكيف؟
أظهرت أحداث العام 1958 أن الانقسام بين اللبنانيين كان كالجمر تحت الرماد، إذ ما إن توافرت الظروف الخارجية حتى اندلعت الحرب الداخلية، وعلى رغم القدرة على تطويقها سريعاً ولكن كان يفترض أن تشكل جرس إنذار بأن ميثاق العيش المشترك في خطر، وراهن الرئيس فؤاد شهاب أن ثلاثية، القبضة الأمنية وبناء المؤسسات ومعالجة الحرمان، كافية لتوحيد اللبنانيين، إلا أن عوامل التفجير في الستينات كانت أقوى من عوامل الخمسينات، فسقطت الدولة وما زالت على هذا المنوال.
ولا شك أن ظروف اليوم الخارجية شبيهة بظروف الاستقلال الأول الذي استفاد من غياب التدخلات الخارجية في شؤونه الداخلية، ومع سقوط نظام الأسد يكون لبنان تخلّص من مشروعين توسعيين: المشروع الأسدي والمشروع الإيراني، الأمر الذي يؤشر إلى فرصة جدية لقيام دولة فعلية، ولكن هذه الفرصة يجب أن تنطلق من عبرة أساسية وهي أن العيش المشترك يبقى قائماً إلى أن تهبّ الرياح الإقليمية التي تحوِّله إلى الموت المشترك.
ولم يعد من المقبول، المتاجرة بشعارات العيش معاً التي سقطت أمام كل منعطف خارجي، والجريمة الأكبر تكمن في الإصرار على هذا العنوان والعمل على ترداده ببغائياً من دون الانكباب على معالجة الأسباب الفعلية لانهياره، لأنه منذ أكثر من نصف قرن، تحوّل العيش المشترك إلى الموت المشترك، والتحدي الأساس أمام عهد الرئيس جوزاف عون واستطراداً حكومة الرئيس سلام يكمن في نقل لبنان من الموت المشترك إلى العيش المشترك.
أظهرت الأحداث منذ العام 1958، أن اللحمة الداخلية تتفسّخ وتتشلّع مع هبوب الرياح الإقليمية، ومن دون هذه الرياح، يكون الانطباع العام أن الوضع اللبناني بألف خير، وهذا يعني أن الانقسام الداخلي من دون أدوار الخارج، لا يؤدي إلى سقوط الدولة، لكن في اللحظة التي تطلّ المشاريع الخارجية برأسها، تجد البيئة الداخلية جاهزة لملاقاتها، فتسقط الدولة.
إن التحدّي الأساس لا يكمن بالرهان على غياب المشاريع الخارجية، لأن هذه المشاريع التي غابت اليوم قد يعود غيرها غداً، ولا يكمن التحدّي بالرهان على حمايات خارجية كون الخارج المهتم اليوم قد ينشغل بأزمات أخرى غداً، وأولويات الحاضر تختلف عن أولويات المستقبل، وبالتالي المطلوب تحصين الواقع المجتمعي اللبناني كي لا يتأثّر بأي مشاريع خارجية مهما كان نوعها أو شكلها.
وبمعزل عن إصرار "حزب الله" على اللغة القديمة التي فقدت قوتها وترجماتها على أرض الواقع بعد خسارته آلاف المقاتلين وهزيمته العسكرية وانقطاع شريان تسليحه الإيراني، إلا أن القاصي يعرف والداني أيضاً أن لبنان خرج من دائرة النفوذ الإيراني بقرار دولي كبير، وبالتالي مع انتهاء مشروع "الحزب" المسلّح والإقليمي، وبعد سقوط الأسد وعودة إيران إلى داخل حدودها، يكون لبنان أصبح بمنأى عن المشاريع التي تهدِّد أمنه واستقراره، وأمام فرصة لهندسة عيشه المشترك.
والفرصة التي أطلّت برأسها تاريخية بامتياز لثلاثة أسباب أساسية: هزيمة المشروع الإيراني في لبنان، الدعم الدولي لقيام دولة فعلية، وقناعة الأكثرية الساحقة من اللبنانيين بأن الدولة وحدها تشكل الضمانة لأمنهم واستقرارهم،.لكن لا يجوز الاكتفاء بثلاثية الهزيمة والدعم والقناعة، إنما من الضروري العمل على خطّين:
الخط الأول، حكومي بإشعار الناس أن الحكومة الجديدة ليست تغييراً في الأسماء والتوازنات، إنما ما بعدها لن يكون كما قبلها، وستكون حكومة لبنان الأولى التي حالت ظروف الاحتلال السوري دون قيامها، ولن تكتفي بتحويل لبنان إلى ورشة إصلاح وإعمار، بل ستعيد ترميم جسور الثقة بين اللبنانيين ودولتهم التي ستستعيد وهرتها بتطبيق الدستور والقوانين وتحقيق العدالة والمساواة.
الخط الثاني، رئاسي مع تهيئة رئيس الجمهورية لطاولة حوار بعنوان المصالحة الوطنية، والمصالحة لا تتمّ بالتكاذب الذي أدى إلى انهيار لبنان على مدى أكثر من نصف قرن، إنما بالمصارحة بعيداً عن السقوف والضوابط والمحرمات والأفكار المعلبة والمسبقة، والانطلاق من مقدّس واحد أوحد هو حرية اللبنانيين وأمنهم واستقرارهم.
وعلى رغم أهمية التحولات الاستراتيجية التي نقلت لبنان إلى ضفة الاستقرار، وعلى رغم أن الحكومة ستشكل علامة فارقة إن بسبب تكوينها، أو الظروف الجيوسياسية المولِّدة لها، إلا أن المطلوب من رئيس الحكومة إبقاء اهتمامه وتركيزه على المصالحة بين اللبنانيين والدولة من خلال شفافيتها ونزاهتها وعدم تمييزها بين منطقة وأخرى، وبين لبناني وآخر، وهذه المصالحة بالذات كفيلة بتحويل شعار "الدولة أولاً" إلى أولوية فعلية على أرض الواقع.
إن المطلوب من رئيس الجمهورية بالتوازي مع متابعته اليوميات السياسية إبقاء تركيزه على المصالحة الوطنية المطلوبة من خلال حوار صريح وشفاف ينطلق من الأسباب التي أدت إلى فشل الجمهورية الأولى وانهيارها، ويعالج هواجس الطوائف بتقديم الضمانات المطلوبة لها، ويستجيب لتطلعات المواطنين بدولة حرة وآمنة ومستقرة، والانطلاق منها إلى مئوية جديدة مختلفة عن المئوية التي سبقتها مع جمهورية ثالثة وثابتة باعتبار أن الجمهورية الثانية كانت تحت الاحتلال السوري و"حزب الله"، ولا يجوز بعد 35 عاماً من الاحتلال والحروب والصراعات العودة إلى العام 1990 وكأن شيئا لم يكن، إنما من الضروري الدخول في حوار عميق وصريح لإعادة تأسيس لبنان على أسس صلبة ومتينة ومستمرة.
هل ستكون حكومة سلام حكومة المصالحة الوطنيّة؟
الــــــســــــابــــــق
-
وزارة الدفاع الروسية: اعتراض وتدمير 40 طائرة مسيرة أوكرانية خلال الليل
-
الخارجية الأميركية: روبيو ناقش مع نظيره المصري الحاجة إلى منع استخدام سوريا كقاعدة للإرهاب أو تشكيلها تهديداً لجيرانها
-
الفدراليّة واقتحام "التابوهات"... البعريني: لقد قلنا ما قلناه
-
لهذه الأسباب حرصت "القوّات" على المطالبة بالتدقيق الجنائي
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك