كتب شارل جبور في "نداء الوطن":
يذكِّر التدخُّل السعودي والأميركي والدولي الكبير لإخراج لبنان من حقبة الشغور الرئاسي والسلاح غير الشرعي بمحطتين كان التدخُّل إبانهما بالقوة نفسها: مرحلة إقرار وثيقة الوفاق الوطني في الطائف لإنهاء الحرب وإحياء مسار الدولة. ومرحلة إعادة الاعتبار لدور الدولة بعد خروج جيش الأسد من لبنان.
لكن المرحلة الأولى، اصطدمت بالرئيس حافظ الأسد الذي انقلب على اتفاق الطائف، ومنع لبنان من أن يستعيد عافيته، فانكفأ التدخُّل الدولي.
فيما اصطدمت المرحلة الثانية بالسيد حسن نصرالله الذي منع تحويل خروج جيش الأسد إلى الاستقلال الثاني الفعلي للبنان. وحيال الأمر الواقع الذي فرضه "حزب الله" بدوره المسلّح وعمقه الإقليمي، انكفأت الاندفاعة الدولية.
ما تقدّم يفيد بوضوح، أن الاستنفار الدولي حيال أزمة معينة هو موَقّت. وهذا طبيعي بفعل كثرة الأزمات في العالم، ما يستوجب "ضرب الحديد وهو حامٍ" بغية الاستفادة من "المومنتم" الجديد، وفعل المستحيل لعدم تفويت فرصة انهيار المشروع الممانع في لبنان وعمقه الإقليمي.
السؤال الذي يطرح نفسه: ما الذي يجعل الاندفاعة الدولية الثالثة باتجاه لبنان ثابتة؟ وبالتالي ما الذي يجعلها مغايرة عن عامي 1989 و 2005؟ وبمن سيصطدم المسعى الدولي هذه المرة بعدما كان اصطدم سابقاً بالأسد أولاً والخامنئي ثانياً؟
تفيد أي مراجعة لحاجزي الأسد والخامنئي باستحالة قيام دولة طبيعية في لبنان في ظل نظاميّ البعث والحرس الثوري. وكان أكثر ما يمكن فعله، رفض الخضوع للأمر الواقع، وتظهير أن الوضع لا يمكن أن يستقيم قبل خروج جيش الأسد وتسليم "حزب الله" سلاحه وانكفاء الدور الإيراني.
لا مؤشرات اليوم إلى وجود حواجز خارجية يمكن أن تصطدم بها الاندفاعة الدولية الكبيرة لإنهاء الأزمة اللبنانية. فالأسد خرج من سوريا. والخامنئي خرج من غزة ولبنان وسوريا ويتّجه للخروج من العراق واليمن، واستمراريته في إيران نفسها موضع شكّ، و"حزب الله" خرج من حرب عسكرية دمّرت قدراته ووقّع اتفاقاً أنهى دوره المسلّح وسلاحه.
لولا وجود الأسد في زمن إقرار اتفاق الطائف، لكان استعاد لبنان عافيته ودوره. ولولا وجود الخامنئي في زمن خروج جيش الأسد، لكان استعاد لبنان سيادته واستقلاله. وبما أنه لا يوجد اليوم أي دور إقليمي مزعزع للاستقرار اللبناني، فإن الفرصة الثالثة التي أطلّت برأسها من خلال الاندفاعة الدولية ستكون ثابتة هذه المرة.
لم يُحكم لبنان في الـ 34 سنة الأخيرة من الداخل، إنما من دمشق وطهران، وبالتالي تمّ حكمه من "برا لجوا". ومع تبدُّل هذا الـ "برا" من مزعزع للاستقرار (الأسد وطهران) إلى محصِّن للاستقرار (واشنطن والرياض والمجتمعين الغربي والعربي)، فإن تخريب الوضعية الناشئة أصبح مستبعداً.
إن رياح التخريب التي تهبّ من الخارج قد ولّت حتى إشعار آخر. وفي المقابل، هبّت الرياح الدولية التي تريد إنهاء الأزمة اللبنانية.
وخلافاً لما يظنه البعض، فإن قوة "حزب الله" لم تكن يوماً متأتية من سلاحه وتنظيمه، إنما من الدور الإيراني، ومع انقطاع الشريان الذي يربط "الحزب" بمرجعيته في طهران، أصبح محاصراً براً وجواً وبحراً، فضلاً عن التدمير الذي ألحقته الحرب بتنظيمه. والمقصود قوله، إن "الحزب" من دون إيران، عاجز عن قلب الطاولة في لبنان.
أكثر ما ينطبق على وضع "حزب الله" هو معادلة ما قبل وما بعد. أي أن وضع "الحزب" ما بعد خسارة الساحة السورية، يختلف جذرياً عن مرحلة ما قبل هذه الخسارة. وبالتالي، لا قيمة لكل ما يصدر عنه من وعيد وتهديد، وأن ما يسمى مقاومته باقية. والدليل، توقيعه أولاً على اتفاق استسلام تضرعاً لوقف الحرب التي خرج منها مهزوماً، وخسارته السياسية المدوية ثانياً في انتخاب رئيس الجمهورية وتكليف رئيس الحكومة.
هل هذا يعني أنه بعد انكفاء إيران وهزيمة "الحزب" العسكرية والاندفاعة الدولية، قد زالت المخاطر السيادية؟ الأكيد أن الهيمنة الممانعة على لبنان من الخارج قد زالت. والأكيد أيضاً أن مسار الدولة الفعلية انطلق مع خطاب قسم لبناني وخطاب تكليف وطني. لكن بسط سلطة الدولة على جميع الأراضي اللبنانية، يجب أن يكون الخطوة الأولى للحكومة.
من الواضح أن "الحزب" يراوغ بكلامه القديم عن قدراته وإعادة تشغيل محركات ما يسمى مقاومته والاستراتيجية الدفاعية، والهدف من هذه المراوغة هو الحفاظ على وضعيته الحالية، ولو المدمّرة، بانتظار أن يبدأ المسار التفاوضي بين الرئيس دونالد ترامب والسيد الخامنئي وما سيؤول إليه، وهذا ما لا يجب السماح به إطلاقاً.
إذاً، ما يريده "حزب الله" اليوم هو شراء الوقت إلى حين تنقشع الرؤية بين واشنطن وطهران. أي أنه يريد أن يُبقي سلاحه وتنظيمه شمال الليطاني، ولا يريد أن يكون تشكيل الحكومة مدخلاً لتسديد الضربة الرابعة ضده. وكانت الضربة الأولى، الحرب واتفاق الاستسلام. والثانية، سقوط الأسد. والثالثة، انتخاب رئيس للجمهورية وتكليف رئيس للحكومة من خارج دائرة "الحزب". والضربة الرابعة، ان تبدأ الحكومة فور تشكيلها ببسط سيادة الدولة. ويسعى "الحزب" إلى تعطيل هذه الضربة. وفي حال نجح تكون خطيئة.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك