أقيم احتفال في الجامعة الانطونية في بعبدا - الحدت، لمناسبة صدور كتاب رئيس "جمعيّة عدل ورحمة"، الأب الدكتور نجيب بعقليني، "عالمنا المترنح بين خريف العولمة والتحوُّلات الجيوسياسيَّة" (منشورات دار سائر المشرق وجمعية عدل ورحمة)، في حضور حشد من أهل السياسة والفكر والثقافة والدين فضلًا عن الأصدقاء.
تضمن الاحتفال توقيع الكتاب الذي يعود ريعه إلى خدمات "جمعيَّة عدل ورحمة" وقدّم له الدكتور فادي فاضل بكلمة اعتبر فيها أن "النصّ يُشَيرُ بِلبَنَانِ إلى الشرّ الذي يكون المؤلِّف فيه الإنسان على صُعد الحروب والظُلم وتجاهُل أخيه الإنسان... في المُقابل يوضح الطريق الواجب اتّباعه لإعادة نسج الرابِط الذي يوحّد بين البشَر، الرابِط الإنساني، الرابط الاجتماعي، والعَقد بين الناس على غرار شُرعة حُقوق الإنسان... ويقدم لنا الأب بعقليني، الجريء والبصير والمثابر، مؤلّفًا يماشي العصر مع خارطة طريق نحو عالم أفضل وأمل يتجاوز الواقع المرير الذي يعيشه مُواطنونا في واقعهم اليومي".
كذلك تضمن الاحتفال ندوة شارك فيها النائبان جورج عقيص وابراهيم منيمنة ورئيسة جامعة اللاعنف وحقوق الإنسان الدكتورة الهام كلاب، وقدمتها أستاذة مادة "المواطنة والمجتمع" في الجامعة الأنطونيّة الدكتورة سحر حيدر.
بعد الترحيب بالحضور وقبل أن تقدِّم المنتدين، ألقت الدكتورة حيدر كلمة مما جاء فيها: "أصدُقكم القول، إنني حين قرأتُ كتاب الأب الدكتور نجيب بعقليني، وجدُتني أمام "صورةِ الإنسان" الذي لأجلهِ، صار "الكلمةُ" إنسانًا وحلَّ بيننا .أن تكون إنسانًا، يعني أن تكون مسؤولًا، تُشارك الله في مُساندة إخوتك وخِدمتهم ودعمهم. أن تعيش "حُرّ" الفكرِ والقلم، وتكونَ سيّدَ أفعالِك وأقوالِك. زينتُكَ الأخلاقُ، درعُكَ المعرفة، وتاجُك التواضع، ورأسمالُك تقوى الله ومحبةُ الآخرين غير المشروطة".
أضافت: أحبائي بالأصالة عن نفسي وباسم "جمعيَّة عدل ورحمة" رئيسًا وأعضاء، أتقدّم بباقة من الشكر والاحترام والتقدير، اطرحها على مائدة "الرهبانيَّة الأنطونيَّة" اولًا، تلك التي "انجبت هذين الأخوين المُتعاضدين، أعني بهما "الجامعة الأنطونيّة" و"جمعيّة عدل ورحمة"، هذه الرهبنة التي كانت وما زالت تزرع البتِلات، حيث ما حلّ أبناؤها، رحمةً وثقافة وعدلًا وإنسانية، رغم ضبابيّة المشهد العام القائم، والظُّروف العصيبة التي تمرّ بها البلاد، عبر مؤسَّساتها التعليميَّة والخدماتيَّة والإنسانية والروحيَّة".
تابعت: "ليست المرة الأولى التي تُسهم فيها الجامعة في نشر كتابات الأب بعقليني، فلقد سبق لدار نشر الجامعة أن ساندت الكاتب واحتضنت من مجموعته "الكنز" خمسة مؤلفاتٍ، وها هي اليوم تجمعنا من جديد حول إصدارٍ مُميَّز، يخاطب فيه الأب بعقليني عقولنا. اختار له عنوانًا صارخًا "عالمنا المترنّح بين خريف العولمة والتحولات الجيوسياسيَّة"، يعبّر بشكلٍ صريحٍ عن مكنونات هذا المؤلَّف، مع إدراك لجسامة المُهمَّات التي تنتظر مختلف مؤسَّسات المجتمع المدني، ويطالبها، كما يطالب كلًّا منا، بنشر وبناء ثقافة السِّلم الأهلي والوعي الإنسانيّ والأخلاق وحثّ المواطنين، بخاصةٍ "جيل لبنان الغد" على مُمارسة الديمقراطيَّة وعيشها من دون خوف أو تزلُّف. علّنا معًا نُبعدُ شبح الفقر والعوز، والجهل والقلق ونعيد كتابة تاريخ لبنان، بعدما انهارت جُذور الثقة بين أبناء الأرضِ الواحدة وكادت أن تنقطع قنواتُ الاتصال".
ختمت: "اسمحوا لي أن استقي من عناوين كتابه بعض العبارات. اسمعه ينادي "بأنسنة العولمة" وينبّه من "اضمحلال حقوق الإنسان" ويتهيّب من صدام الحضارات، ويتساءل ما إذا كانت صراعًا أم حوارًا؟ ويعتبر أن الدين هو عاملٌ إيجابي، يجيب الإنسان الحرّ المتمتّع بالحرية والإرادة، من خلاله، على مُبادرة الخالق الذي يكشف له ذاتَه وأعماله ومشروعه الخلاصيّ للبشر، مشددًا على الأخوَّة الإنسانيَّة ومُمارسة المُواطنة والتشبُّث بالهويَّة الوطنيَّة مع احترام التنوُّع والاختلاف".
في كلمته، اعتبر النائب عقيص أن كتاب الأب بعقليني "مكتوب بريشةٍ روحانية، مبني على وقائعَ علمٍ ومعرفة، مسند الى تجارب شخصية عاشها المؤلف، وهو بالتالي خلطة إيمان وعلم، وتحدِّ لمقولة إن الإيمان نقيض المحسوس، والمحسوس نقيض الإيمان. كتاب تكثر فيه الأسئلة، وتفيض فيه الإجابات. كتاب يشرح المفاهيم المُلتبسة والمختلِطة في ما بينها كالعالمية والعولمة، حقوق الانسان وحقوق الدول، ويبيّن بشأن كل منها الحدود والفواصل، المزايا والمساوئ، ثم ينطلق بعد الشرح إلى معاينة الواقع بعين الفاحص المجرّد، يطرح البعد الشاسع بين المعيوش والمنشود، ويسكب من خلف ستائر أوراقه تجربته الشخصية في مجال حقوق الإنسان"..
أضاف: "نادرة هي المؤلفات التي تشكّل في وقت واحد ناقوساً يحذّر مما نحن عليه ودليلاً على ما يجب ان نكون" ، مشيرًا إلى أنه "في معرض رسمه للعالم الأفضل بمكوناته كافة، يصف الأب نجيب القادة الحقيقيين فيقول: " نعم، نحلم بعالم أفضل عندما يتحلى قادة البلدان بروح القيادة الحقة. يتكل البعض على طموحه ومهارته وجدارته وموهبته ومزاياه، وحتى على ماله وكريزمته، ويعتبر ان تلك الميزات تخول من يمتلكها ان يكون قائدا حقا. ينسى هؤلاء ان من مؤهلات القيادة التحلي بفضائل إنسانيَّة في الطليعة، منها: العدالة، التواضع، الفطنة، التميز، الشهامة، الصدق، المرونة، الشجاعة، السيطرة على الذات وغيرها. هذه الفضائل الانسانية الاساسية والجوهرية تحيي شخصية القائد وتنميها وتساعده على اتخاذ قرارات صائبة تصب في خانة المصلحة العامة".
ختم: "في معرض بحثنا مع الأب نجيب عن مفاهيم تحتاج بنظره ونظرنا الى تجديد واعادة هندسة مثل الديمقراطية والمواطنة، اتساءل اليوم، وفي هذه اللحظة السياسية بالذات، ألم يحن الوقت في لبنان، لكي يكون عندنا رئيس بمزايا الراهب، وشعب يتحوّل نحو نخبوية المواطنة الحقة، وكتاب مقدس لكل طائفة صحيح ولكن مع كتاب مقدس جامع بالمعنى السياسي هو الدستور؟"
أشارت دكتورة كلّاب في كلمتها إلى أن "مؤلفات الأب بعقليني تحاول المُشاركةَ في التساؤلات الإنسانيَّةِ في "الارتقاء بين الموروثات والتطلُّعات" وفي "الومضات النورانيَّة في الزمن الصَّعب"، وهو عنوانُ كتابِه ما قبلَ الأخير... الزَّمنُ الصعب... اليوم والأحرى بالقول زمنُ اللامعقول، وهو ما نُقاربُه في كتابِك "عالمُنا المترنّح بين خريف العولمة والتحوُّلات الجيوسياسيَّة".
أضافت: "كم يبدو هذا العُنوانُ مترفقًا وأكاد أقول متأنِّيًا، عندما تصفعُنا تحوّلاتُ عالمِ اليوم في أزماتِه المُفاجئةِ والمُتعاقبةِ، كما في محطَّات القهر والتسلُّط، ونحن هذا البلدُ الصغيرُ على شاطئِ المتوسط، المُغري بتوهُّجِه والهشّ بتماسُكه، الذي يُعايشُ عصفَ عالمِ العُنفِ والقوَّة والمال والتحكُّمِ بحُدود البُلدان وحياةِ ناسِها.لكن يتعدَّدُ في هذا الكتاب ذِكرُ الأحداثِ والتحوّلاتِ والمواقفِ والتقاريرِ والوثائقِ المتشظيّةِ الآفاقِ والمُثيرةِ للقلقِ على حاضرِ الإنسانيَّة وعلى مُستقبلِها".
تابعت: "هو ليس كِتابًا أكاديميًّا، ولكن يُسائلُ الكاتبُ العولمةَ والحداثةَ وما بعد العولمةِ وما بعد الحداثةِ، يتوقّفُ بأسى عند حُقوقِ الإنسانِ المُنتهَكةِ في نظامٍ عالمي يزدادُ شراسةً وهشاشةً. هو عالمٌ يترنَّحُ كي يستولدَ جديدَه في زمنٍ مُتسارع يمحو ويرمي، عالمٌ مُقلقٌ ومُخيفٌ، عالمُ سُلطةِ القوّةِ والعُنفِ والمال حين تتفلّتُ من عِقالها".
توقفت د. كلّاب عند مقارَبة الأب نجيب بعقليني كلَّ هذه المواضيع بنقاطٍ ثلاث مُترابطة: قلقُ الإنسانِ المُعاصِر، الالتزامُ التربوي، روحانيّةُ الإيمان. "لذا يدعو هذا الكتابُ إلى مُواطنةٍ فاعلةٍ إنسانيّة، وإلى سُلطةٍ مُقتدرةٍ، إلى حوار الحضارات حيال صِراعِها، والى مبدأ المسؤوليَّةِ والديمقراطيّةِ، وإلى حوارِ الهويَّات، وأنسنةِ العقل، إلى العدالةِ الاجتماعيَّةِ، والتفوُّقِ على الذَّات، وإلى الأخوَّة الإنسانيَّة. هو يحاولُ تجاوزَ الواقِع المؤلم دون أن يتجاهلَ أنينَ المُتألِّمين وصُراخَ المظلومين، وفي مواضيعَ متشعبةٍ كثيرة- أكاد أقول – ينوء بها كتابٌ واحِد، ولكن لُحمتَها وسداها الجرأة والمُثابرة والدَّعوة إلى السَّلام والتآخي والعدل والمحبَّة والرَّحمة".
ثم عُرض فيلم وثائقي تضمَّن فُصولًا من مسيرة "جمعيَّة عدل ورحمة" التي يترأسها الأب الدكتور نجيب بعقليني، وإنجازاتِها وعطاءاتِها التي زادت عن خمسٍ وعشرين سنة، لا تكِلّ ولا تمَل.
واعتبر منيمنة في كلمته أنه "لا يمكن الحديث عن العولمة دون التطرق إلى القيم التي باتت تفرضها على المجتمعات. قيمٌ تشجع على المنافسة والفعالية والسرعة، لكنها كثيرًا ما تكون على حساب القيم الإنسانية الأساسية مثل التضامن والعدالة. وكما يُوضح الكاتب: "إن غياب التوازن بين قيم الإنتاجية والقيم الإنسانية يهدد بتفكيك الروابط الاجتماعية وتآكل النسيج المجتمعي".
أضاف: "يتناول هذا الكتاب دور المؤسسات الدولية والسياسية في تشكيل نظام عالمي جديد. هذه المؤسسات، التي أُنشئت بهدف تحقيق العدالة العالمية، أصبحت أحيانًا أداة لتعزيز مصالح القوى الكبرى على حساب الدول الأقل نفوذًا. إن هذا الواقع يفرض علينا التفكير بعمق في كيفية إصلاح هذه المؤسسات بحيث تُصبح أكثر عدالة وشمولية".
تابع: "لبنان، هذا الوطن الصغير بحجمه والكبير برسالته، يُمكن أن يكون نموذجًا للتعددية والتعايش. وكما يُشير الكاتب: "إن لبنان يملك مقومات فريدة تجمع بين الثقافات، ما يؤهله ليكون منبرًا للحوار الإنساني في مواجهة عواصف العولمة".
أكد أن "التجربة اللبنانية، رغم ما تمر به من تحديات، تظل مصدر إلهام للدول التي تسعى لإيجاد توازن بين التعددية والاستقرار. هذا التوازن يحتاج إلى رؤية واضحة وجهود مشتركة من جميع مكونات المجتم"، لافتًا إلى إن الحديث عن العولمة لا يكتمل دون الإشارة إلى دور المجتمعات المحلية. إن نجاح أي نظام عالمي يعتمد على مدى تفاعل المجتمعات المحلية معه. فالمجتمعات التي تحترم التنوع وتدعم قيم العدالة والمساواة ستكون قادرة على مواجهة التحديات التي تفرضها العولمة. وفي هذا السياق، يمكن للمجتمع المدني اللبناني أن يلعب دورًا محوريًا. فهو يمتلك القدرة على تعزيز القيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، مما يجعله قوة دافعة للتغيير الإيجابي. إن استثمار هذا الدور يتطلب رؤية واضحة ودعمًا من جميع القطاعات".
ختم: "على المستوى الإقليمي، يمكن للبنان أن يكون جسراً للتواصل بين الثقافات والحضارات المختلفة. هذا الدور يتطلب تعاونًا أكبر بين الدول العربية لتعزيز القيم الإنسانية المشتركة. ومن هنا، يمكن للبنان أن يقود حوارًا بناءً يُسهم في تطوير استراتيجيات جديدة لمواجهة التحديات المشتركة. إلى جانب دور لبنان الداخلي، يمكنه أيضًا أن يكون محركًا لمشروع عربي إنساني. هذا المشروع يمكن أن يُعيد صياغة العلاقات بين الدول العربية على أسس إنسانية وثقافية تُعزز من مكانتها عالميًا. إن التعاون الإقليمي المبني على الاحترام المتبادل يمكن أن يكون الردّ الأمثل على التحديات التي تواجه المنطقة. وفي خضم هذه التحديات، يجب أن نتذكر أن لدينا فرصة لبناء مستقبل أفضل. هذا المستقبل يتطلب منا جميعًا العمل معًا لتحقيق رؤية مشتركة تستند إلى العدالة والكرامة الإنسانية".
في ختام اللقاء، شكر الأب بعقليني المنتدين والحضور وألقى كلمة مما جاء فيها: "نعم، يحقُّ لي أن أحلُم بعالَمٍ أفضل يخرُج من الرتابة الفِكريّة والأخلاقيَّةِ و"القيميّة" ويتصدى، بالوسائل المُتاحة، لانحدار الإنسانيَّة، ويتحلّى القادة فيه بروح القيادةِ الحقَّة. مطلوب اليوم، أكثر من أي وقت مضى، أن يعرف أصحابُ السُّلطة والمسؤولون عن حياة الناس، أن أولوياتِهم خدمةُ الإنسان، وليس استعمالَ "سطوتِهم" السلبيّة والمؤذية لتحقيق "عدالة منقوصة ومشوّهة" تصُبُّ في المنفعةِ الخاصة والضيّقة.المُواطنة تُصحِّح مسار الأنظمة المُتعثِّرة، تُنتجُ مُواطنًا صالِحًا حاملًا في فِكره وعقله وأدائه التنبُّه إلى المصير المُشترَك من خلال وعي الأخطار والحذر من التشرذُم والاقتتال ومُخالفة القانون والغرق في المصالِح الخاصة الضيِّقة".
أضاف: "نعم، يحقُّ لي أن أحلُم بـ "ثورة بيضاء"، على الذات أولًا، ومن ثم على كلّ اعوجاج يهدّد مصيرَ المُجتمع وسط التحولات الجذريّة والتطوّرات السريعة والانقلابات غير المتوازنة وغير المتزنة، فأصحاب الثورات البيضاء يملِكون قلوبًا نقيّة وضمائرَ ناصعةً وشفافة تخوّلهم أن يكونوا أولياء ومسؤولين بجدارة".
ختم: "نؤمن بالإنسان، فلا حياةَ من دونه، ونحلُم وننتظرُ عالمًا أفضل، ونعيشُ بالأمل والتفاؤل كما بالرجاء، فالأملُ هو شُعورٌ بالطُمأنينةِ والارتياح، أما الرَّجاءُ فيبدأ عندما يختفي الأملُ، لأنه مبني على إيمان بحت بقُدرة الخالِق ووجودِه".
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك