كتبت راغدة درغام غي "النهار العربي":
سيصف البعض الموقف الإيراني من حرب غزة بأنّه قمّة التأنّي الاستراتيجي نتيجة تملّص القيادة الإيرانية من مسؤولية ما قامت به "حماس" في 7 تشرين الأول الجاري، ورفضها الانجرار إلى مواجهة مع إسرائيل عبر البوابة اللبنانية والسورية، بالرغم من دموية المشهد المريع في غزة لأسبوعين.
سيعترض البعض الآخر على المديح بحكمة الموقف الإيراني، وسيصرّ على اعتبار الجمهورية الإسلامية الإيرانية "الامبراطور العاري بلا ثياب"، لأنّ القيادة في طهران خشيت التهديد الأميركي لها ورضخت لاستراتيجية الردع التي أتت على متن حاملة الطائرات الأميركية في المنطقة. فماذا فعلت حرب غزة بالتهادنية التقليدية بين إيران وإسرائيل وبالعلاقة التنظيمية بين طهران ووكلائها مثل "حماس" و"حزب الله" في لبنان؟ لاسيما في ضوء مؤشرات إلى عزم طهران على تجنّب الحرب الشاملة مع إسرائيل. ماذا سيفعل الرئيس الأميركي جو بايدن استراتيجياً في أعقاب الاستفادة انتخابياً من مأساة غزة؟ وأين ستصرف "حماس" بطوليتها المزعومة بعدما يتحوّل شمال غزة إلى "ساحة نظيفة" وتفلح المساعي الإسرائيلية والأميركية والأوروبية بالتمييز بين "سحق" "حماس" وبين "تقييد" نشاطاتها ضمن المساومات السياسية؟
الكارثة الإنسانية التي طوّقت أهل غزة مزّقت القلوب في مختلف أنحاء العالم، وساهمت في فضح الازدواجية والعنصرية لدى الغرب من ناحية، وتعرية القرارات السياسية السيّئة والمخزية لكل من إسرائيل وفصائل فلسطينية عقائدية ودينية لا علاقة لها بالحقوق الوطنية للفلسطينيين. حرب غزة لم تنته بعد، ومآسي شعبها مستمرة الى حين إبرام الصفقات والمقايضات المحلية والاقليمية والدولية.
الرئيس جو بايدن لعب أوراقاً رابحة له سياسياً وانتخابياً بزيارته التضامنية لإسرائيل التي ستُكسبه دعماً سياسياً ومالياً من الجالية اليهودية الأميركية في حملته الانتخابية الرئاسية. كان من الأفضل لو لم يُتخذ قرار تأجيل القمّة الرباعية في عمّان التي كانت ستضمّ قادة الولايات المتحدة ومصر والأردن وفلسطين، والتي ألغتها فاجعة كارثة مستشفى المعمداني. لكن الرئيس الأميركي بدا جاهزاً لمحادثات مع القادة العرب بهدف البحث معاً عن حلول. ترك لديهم دعوة إلى شراكة لاستنباط خطة سلام جديدة يكون للولايات المتحدة دور فيها وليس، كما جرت العادة، بصفة الوسيط الوحيد.
الأهم أنّ الرئيس الأميركي بزيارته الجريئة وسط مخاوف أمنية، وباستعداده لعقد القمّة الرباعية، بعث برسالة واضحة فحواها أنّ الولايات المتحدة جاهزة للعودة إلى لعب دور في الشرق الأوسط، وهي جاهزة للانخراط في عملية سلام جديدة.
هذا لا ينفي انحياز الرئيس الأميركي إلى إسرائيل، ولا يمحو الاشمئزاز من كيفية احتضانه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لدى الكثير من الأميركيين، وليس فقط لدى العرب.
إنما ما قاله بايدن سياسياً يجب التوقف عنده مهما بدا متحاملاً على الفلسطينيين. قال: "بقدر ما هو صعب، فإننا لا نستطيع التخلّي عن السلام، لا يمكننا التخلّي عن حلّ الدولتين. إسرائيل والفلسطينيون يستحقون العيش في أمان وسلامة وبكرامة على قدم المساواة". قال أيضاً إنّه بحث مع نتنياهو ضرورة التزام إسرائيل بقوانين الحرب، وإنّه حذّر الحكومة الإسرائيلية من ألّا "يعميها غضبها".
هذا لا يعني أنّ إسرائيل استجابت للرئيس الأميركي على صعيد حماية المدنيين، لكن إصراره على عدم تنفيذها الاجتياح البري لغزة كان واضحاً، واضطرت إسرائيل للتجاوب معه ولحصر الاجتياح البري في عمليات "محدودة"، ليس فقط خوفاً من تهديدات "حزب الله" بفتح الجبهة الشمالية وإنما أمام الموقف الأميركي الحازم بمعارضة الاجتياح البري الكبير.
المواقف العربية، وعلى رأسها المصرية والأردنية، أحبطت النوايا الإسرائيلية بفرض التهجير القسري لفلسطينيي غزة إلى سيناء وثم من الضفة الغربية إلى الأردن لاحقاً. هذه المواقف اضطرت بالأميركيين والأوروبيين للوقوف في وجه النوايا والخطط الإسرائيلية ومعارضة سياسة التهجير القسري. ما لم تعارضه هو تحقيق هدف "تنظيف" غزة من "حماس". وهنا المعضلة.
"حماس" تملك مفاتيح الرهائن والأسرى، وهذا بحدّ ذاته يجعل منها لاعباً ضرورياً في أية خطط ومقايضات. التغيير في العلاقة الإسرائيلية مع "حماس" بات اليوم تغييراً نوعيّاً في أعقاب 7 تشرين الأول، لأنّ لا مجال لاستمرار التفاهمات بين الطرفين. من هذا المنطلق، يمكن القول إنّ "حماس" سحبت نفسها من معادلة البديل عن "السلطة الفلسطينية" نتيجة عملياتها الأخيرة. فهي الآن مرفوضة إسرائيلياً وأميركياً وأوروبياً وعربياً - الى حدّ ما - كطرف في المعادلة السياسية والحل السياسي.
بكلام آخر، إنّ لغة التمييز بين المستقبل الفلسطيني ومستقبل "حماس" دخلت قاموس البحث عن حل سياسي. ما تقوله إدارة بايدن هو أنّ مستقبل فلسطين وإنشاء الدولة الفلسطينية يجب أن يكون من دون "حماس" كما هي اليوم. وما يحدث اليوم نتيجة حرب غزة قد أدّى إلى تغيير في صفوف القيادة نتيجة العمليات العسكرية الإسرائيلية والتصفيات المستمرة. والسؤال هو كيف سيكون مشهد القيادة في "حماس" ما بعد عمليات تحويل شمال غزة الى "ساحة أمنية مسطّحة" بلا أبنية أو أنفاق.
إسرائيل لن تتمكن من سحق "حماس" نهائياً، لكن ما تنوي القيام به هو إبراز كلفة دعم "حماس" في الصفوف الفلسطينية المدنية. أي أنّ إسرائيل عازمة على إبلاغ أهل غزة بأنّها تحمّلهم مسؤولية وعواقب استمرارهم بدعم "حماس"، كما تنوي إبلاغ الدول العربية التي تدعم أو تتعاطف مع "حماس" بأنّ عليها أن تفتح أبوابها أمام قياداتها، أو ما سيتبقّى من قيادات.
رئيس حركة "حماس" في الخارج، خالد مشعل، حرص على القول إنّه "لا توجد أصوات في غزة تنتقد المقاومة". في الوقت ذاته شبّه "حماس" بـ"طالبان" قائلاً: "طالبان هزمت أميركا ونحن سنهزم إسرائيل". وطالب في آنٍ واحد بـ"موقفٍ عربي إسلامي يضغط على الغرب لوقف الحرب". التخبّط في رسالته كان واضحاً إذ قال: "نحن لا ندعو الشعوب إلى الحروب" وفي الوقت ذاته أكّد أنّ "حزب الله" وإيران "قدّما لنا السلاح والدعم، ونطلب المزيد"، في ما سمّاه "المغامرة المدروسة" في هجوم كتائب القسام- الجناح العسكري لحركة "حماس"- المباغت على إسرائيل.
ما تريده "حماس" من "حزب الله" هو أن يخوض بدوره "مغامرة مدروسة"، ليقطع الطريق على اجتياح برّي إسرائيلي يدمّر "حماس". لكن "حزب الله" ليس في وارد الانتحار من أجل "حماس" من جهة، ولا البقاء في ظلّ "شجاعة" "حماس" من جهة أخرى. لدى كتابة هذه السطور، كان "حزب الله" يلعب بأعصاب اللبنانيين ملمّحاً بعمليات "استباقية" للاجتياح البرّي لغزة تُلهي إسرائيل عنه، لاضطرارها الانخراط على جبهتها الشمالية مع لبنان. أما إيران، فإنّها بقيت رسميّاً خارج اللعبة العسكرية، تزعم أنّ قرارات "حزب الله" أو "حماس" ليست قراراتها. فهذه من فوائد سياسة الحروب بالوكالة.
مرّة أخرى، إنّ أولوية الجمهورية الإسلامية الإيرانية، نووية، بمعنى أنّها لا تريد ضربة عسكرية ضدّها تؤخّر قدرتها على تصنيع القنبلة النووية بعد ستة أشهر. لذلك هي تلتزم بالتأنّي الاستراتيجي حتى وإن جعلها تبدو امبراطوراً بلا ثياب. لقد تملّصت طهران من مغامرة "حماس" المدروسة، وتمسّكت بالتهادنية التقليدية بينها وبين إسرائيل، وأصغت جيداً الى رسالة الردع الأميركية.
التحدّيات أمام السياسة الأميركية ليست إنسانية فقط، وإنما هي سياسية واستراتيجية. إدارة بايدن في حاجة للحزم مع إسرائيل كي تفرض عليها الوعي بدلاً من السماح لها باستغلال الدعم الأميركي كوسيلة لتوسيع بيكار انتقامها من الشعب الفلسطيني. هذه مسؤولية أخلاقية واستراتيجية على أكتاف الرئيس بايدن وإدارته.
تلك القمّة الرباعية التي ألغتها كارثة قصف المستشفى المعمداني يجب أن يُستأنف الإعداد لعقدها بل لتوسيع حلقة المشاركين فيها، - بما يشمل السعودية - ويجب على إدارة بايدن أخذ زمام المبادرة لعقدها قريباً على أساس خطة مدروسة لشراكة في صياغة الحلول السياسية. يجب على إدارة بايدن الكف عن استفزاز المشاعر من خلال إجراءات لا لزوم لها، مثل الوقوف وحدها ضدّ مشروع قرار إنساني في مجلس الأمن دعمه شركاء لها.
على الدول العربية، وتحديداً تلك التي ألغت القمّة الرباعية مع الرئيس الأميركي، أن تبادر الى التواصل السياسي مع واشنطن لعقد القمّة. فهي قد أخطأت عندما أضاعت فرصة عقدها، مهما برّرت ذلك بأنّه كان تجاوباً مع غضب الشارع العربي. القيادة الفلسطينية بصورة خاصة مُطالبة بالتوقف عن سياسات الحَرَد والمقاطعة والرفض التي يتبنّاها الرئيس محمود عباس، ذلك أنّ المطلوب منه اليوم أن يكون بمستوى المسؤولية، وأن يقتنص فرصة إلزام إدارة بايدن بالضغط على إسرائيل من أجل تحقيق حل الدولتين وقيام الدولة الفلسطينية.
أما "حزب الله" الذي استملك قرار الحرب وصادره من الحكومة اللبنانية السيادية، فعسى أن لا تستفزّه بطوليات "حماس" في مغامراتها المدروسة، وأن يتبنّى بدلاً عن ذلك حكمة التأنّي الاستراتيجي الإيرانية.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك