كتبت أريج عمار في "الأنباء" الإلكترونية:
في ظل تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب الأخيرة، والتي أثارت جدلاً واسعاً على الساحة الدولية، تبدو غزة اليوم وجهة مشروع سياسي جديد يهدف إلى إعادة تشكيل خريطة الشرق الأوسط. ترامب، الذي عُرف بمواقفه المثيرة للجدل ودعمه غير المحدود لإسرائيل، يطرح الآن رؤيةً جديدةً لغزة، تتراوح بين التهجير الجماعي للسكان وتحويل القطاع إلى ما أسماه "ريفييرا الشرق الأوسط".
ولكن ما هي حقيقة هذه الرؤية؟ وهل يمكن أن تتحول غزة من ساحة صراع إلى وجهة سياحية فاخرة تحت الإدارة الأميركية؟
خطة التهجير: حلم متجدّد
في تصريحاته الأخيرة، تحدث ترامب عن تهجير سكان غزة بالكامل، حيث أشار إلى أن عدد السكان البالغ حوالي مليوني شخص سيتم نقلهم إلى دول مجاورة مثل الأردن ومصر، بالإضافة إلى دول أخرى في الشرق الأوسط وحتى خارج المنطقة. ووفقاً لترامب، فإن هذه الخطوة هي الأولى في سلسلة إجراءات تهدف إلى "إنهاء الوجود الفلسطيني" في غزة، تمهيداً لتحويلها إلى منطقة تحت السيطرة الأميركية.
ترامب يرى في هذا التهجير حلاً نهائياً للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، حيث يعتقد أن نقل السكان الفلسطينيين إلى دول أخرى سيؤدي إلى إنهاء المطالب الفلسطينية بالعودة إلى أراضيهم. كما أشار إلى أن هذه الدول ستوفر للفلسطينيين حياةً "كريمة وآمنة"، مع بناء مدن جديدة لهم في مناطق المهجر. لكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل يمكن أن يقبل الفلسطينيون بترك أرضهم التي يعتبرونها جزءاً من هويتهم وتاريخهم؟
ريفيرا الشرق الأوسط: حلم أم وهم؟
بعد الحديث عن التهجير، ينتقل ترامب إلى الجزء الثاني من خطته، وهو تحويل غزة إلى ما أسماه "ريفيرا الشرق الأوسط". الريفيرا، التي تعني الساحل باللغة الإيطالية، ارتبطت تاريخياً بالمناطق السياحية الفاخرة في جنوب أوروبا، حيث كانت وجهة للأثرياء والمشاهير الذين يسعون للاستجمام والرفاهية. ترامب يريد أن يحول غزة إلى منطقة مماثلة، تحت الإدارة الأميركية، حيث ستكون وجهةً للسياحة والترفيه.
لكن هذا الحلم يبدو بعيداً عن الواقع، خاصة في ظل الظروف الحالية التي تعيشها غزة. فبعد سنوات من الحصار والدمار الذي خلفته الحروب المتتالية، أصبحت غزة منطقةً تعاني من نقص حاد في البنية التحتية والخدمات الأساسية. تحويلها إلى منطقة سياحية فاخرة يتطلب استثمارات هائلة وإعادة بناء كاملة، وهو ما يبدو غير واقعي في ظل التوترات السياسية والأمنية المستمرة.
خطة بن غوريون ومشروع الممر الأعظم: جذور الفكرة
فكرة ترامب ليست بجديدة، إذ يمكن ربطها بمحاولات سابقة في التاريخ الصهيوني لتهجير الفلسطينيين وإعادة تشكيل المنطقة. ففي أربعينيات القرن الماضي، طرح ديفيد بن غوريون، أول رئيس وزراء لإسرائيل، خطةً تهدف إلى تهجير الفلسطينيين من أراضيهم وإعادة توطينهم في دول عربية مجاورة. كانت هذه الخطة جزءاً من رؤية أوسع لإنشاء دولة يهودية ذات أغلبية ساحقة، مع تقليص الوجود الفلسطيني إلى أدنى حد ممكن.
كما أن مشروع "الممر الأعظم"، الذي تم الترويج له في بعض الأوساط الإسرائيلية والأميركية، يهدف إلى إنشاء منطقة اقتصادية وسياحية تمتد من البحر الأبيض المتوسط إلى خليج العقبة، تمر عبر الأراضي الفلسطينية. هذا المشروع، الذي يُعتقد أنه يحظى بدعم بعض الأطراف الإسرائيلية، يتقاطع مع فكرة ترامب حول تحويل غزة إلى "ريفيرا الشرق الأوسط". فكلاهما يسعى إلى إعادة تشكيل المنطقة لصالح مصالح اقتصادية وسياسية محددة، مع تجاهل الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني.
ردود الفعل الدولية: رفض واسع
خطة ترامب لم تلقَ ترحيباً على الساحة الدولية والعربية على حدٍّ سواء. فكما أعلنت كل من مصر والأردن رفضهما القاطع لفكرة التهجير، مؤكدين على حق الفلسطينيين في البقاء على أرضهم، إلى جانب الموقف العربيّ الموحّد على رأسها موقف المملكة العربية السعودية الرافض للتهجير، أعلنت أيضا العديد من الدول الأوروبية، بما في ذلك ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، رفضها لهذه الخطة، مؤكدةً على ضرورة حل الدولتين كطريقة وحيدة لتحقيق السلام في المنطقة.
حتى داخل الولايات المتحدة، واجهت خطة ترامب انتقادات من قبل أعضاء في الكونغرس، بما في ذلك بعض الجمهوريين الذين يعتبرون أنفسهم حلفاء لترامب. هذه الانتقادات تعكس انقساماً داخلياً حول مدى واقعية وجدوى هذه الخطة، خاصة في ظل التحديات السياسية والأخلاقية التي تطرحها.
إرادة الفلسطينيين: التحدي الأكبر
في النهاية، يبقى التحدي الأكبر أمام أي خطة تهدف إلى تغيير واقع غزة هو إرادة الشعب الفلسطيني نفسه. فبالرغم من الدمار الذي لحق بالقطاع والحصار الذي يعانيه منذ سنوات، إلا أن الفلسطينيين ما زالوا متمسكين بأرضهم ويعتبرونها جزءاً لا يتجزأ من هويتهم وكيانهم، وأي محاولة لتهجيرهم أو تغيير طبيعة المنطقة ستواجه مقاومةً شرسةً من قبل السكان الذين يعتبرون أنفسهم حراساً لهذه الأرض.
فخطة ترامب لغزة تطرح أسئلةً كبيرةً حول مستقبل الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي ومدى إمكانية تحقيق السلام في المنطقة. بين أحلام التهجير وتحويل غزة إلى "ريفيرا الشرق الأوسط"، يبقى الواقع على الأرض هو العائق الأكبر. فالشعب الفلسطيني، الذي صمد لعقود في وجه الحروب والحصار، لن يتخلى عن أرضه بسهولة. والأيام القادمة ستكشف ما إذا كانت هذه الخطة مجرد حلم بعيد المنال، أم أنها ستتحول إلى واقع جديد يغير وجه المنطقة إلى الأبد.
كما أن ربط هذه الخطة بمحاولات تاريخية مثل خطة بن غوريون ومشروع الممر الأعظم يظهر أن الفكرة ليست جديدة، بل هي جزء من استراتيجية طويلة الأمد تهدف إلى إعادة تشكيل المنطقة لصالح مصالح معينة. لكن التاريخ أثبت أن إرادة الشعوب هي العامل الحاسم في تحديد مصيرها، وغزة لن تكون استثناءً.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك