لم يعد من الممكن اختزال ظاهرة التصويت الشعبي الواسع المتكرر في الاستحقاقات الانتخابية الفرنسية، من تشريعية الى رئاسية الى بلدية الى مناطقية الى اوروبية، لـ«الجبهة الوطنية» الذي يوصف بأنه يميني متطرف، والذي يصف نفسه اليوم بأنه سيادوي، في مجرد ظاهرة «انفعالية» أو «احتجاجية» لأناس ناقمين على الأوضاع، يمكن بسهولة اجتذابهم الى برامج وخيارات أخرى، أقرب الى ثقافة المؤسسة الحاكمة أو الاستبلشمنت.
نجحت الجبهة الوطنية في تكريس نفسها كمعادلة صعبة في الانتخابات وفي كامل الحياة السياسية الفرنسية. منذ ثلاث سنوات، والانظار متجهة الى ما ستفعله زعيمتها مارين لوبن في رئاسيات 2017. فوز دونالد ترامب في أميركا، ونجاح البركست في بريطانيا، جعل الكثيرون يعتقدون بأنها يمكن فعلا ان تربح هذا الاستحقاق. لكن استطلاعات الرأي الأخيرة تتحدث عن تراجعها، وراء ايمانويل ماكرون اليساري المعتدل. مع ان استطلاعات من هذا النوع تشتغل في العادة عشية الاستحقاق كي تؤثر في النتيجة، وتجربة الاستطلاعات في السنوات الأخيرة لم تكن مشجعة، الا في هولندا، حيث توقعت فشل اليمين المتطرف وهذا ما حدث، فهل يتكرر فشل هذا التطرف في فرنسا أيضاً؟
هذا السجل الانتخابي المتراكم للجبهة الوطنية، جعلها تبدو بمثابة أهم ظاهرة لتصاعد النزعة الشعبوية في أوروبا اليوم، والى درجة دفعت الكثيرين لاعتبار صعودها مؤشراً على مرحلة من الارهاق تعيشها الديموقراطية. مع ذلك، تختلف هذه الجبهة عن طروح اليمين المتطرف التقليدي. فالأخير غالبا ما كان يساجل ضد الديموقراطية ذاتها، ضد البرلمانية، أما الجبهة فتطرح نفسها كنصيرة الجمهورية والديموقراطية والعلمانية، وتعتبر ان التهديد ضد هذه القيم الأساسية يأتي من «الغريب».
المفارقة ان الجبهة تنتمي الى تقليد سياسي بدأ حياته في أيام جان ماري لوبن الشاب في الدفاع المستميت عن استمرار الاستعمار الفرنسي للجزائر، وبقاء المجتمع الاستيطاني لفرنسا في الجزائر، ثم انتقل هذا التقليد ليحارب تحول فرنسا نفسها الى فرنسا جزائرية أو مغاربية أو ذات مسحة اسلامية.
المفارقة الثانية، ان اليمين المتطرف الفرنسي لم يعد يركز على كون «الحضارة الغربية» في خطر، بل أخذه الهوى الى حب السلطوية كما هي ممارسة في هذا الند للغرب الذي تشكله روسيا في ظل قيادة الرئيس فلاديمير بوتين. وليست الجبهة الوطنية وحدها في حب بوتين في فرنسا، يشاركها في حبه جان لوك ميلانشون والشيوعيون، مثلما هي انتزعت من الحزب الشيوعي الصدارة بالنسبة الى أصوات الطبقة العاملة
.
جان ماري لوبن: مسيرة صاخبة طويلة تنتهي بتمنّيه الفشل لابنته
مطلع الثمانينيات، استشعر زعيم «الجبهة الوطنية» جان ماري لوبن، أنّ عليه تقديم نفسه بحلّة جديدة: أول ما فعله كان استبدال العصبة التي غطت عينه اليسرى بعد أن أصيبت بالتلف من جراء «مشكل انتخابي» يعود إلى عقد الخمسينيات، بزرع عين اصطناعية.
كانت «الجبهة الوطنية من أجل الوحدة الفرنسية» التي يرأسها منذ تأسيسها عام 1972 لا تزال تشكيلاً هامشياً في الحياة السياسية. واحدة من الحركات اليمينية المتطرفة المستنزفة إلى حد كبير في التصارع بعضها مع بعض. لكن لوبن، الذي نال 0.75 بالمئة في رئاسيات 1974، ولم يتمكن من جمع التواقيع اللازمة للترشح الرئاسي مجدداً عام 1981، كان نجح في هذا الوقت في إحكام قبضته على «الجبهة»، ولم يكن هذا ما ينتظره المبادرون إلى تأسيسها في الأصل. فـ«الجبهة» أريد لها في البدء أن تكون واجهة إنتخابية لتنظيم «النظام الجديد» النيو ــ فاشي، الكاره للجنرال ديغول الذي «خان» الجزائر الفرنسية، ولم يحترم ذكرى الماريشال بيتان «بطل فردان»، أكثر حتى من كره التنظيم للشيوعية. حركة «النظام الجديد» بادرت إلى تأسيس الجبهة، مستوحية من تجربة «الحركة الاجتماعية الإيطالية» التي أسسها الفاشيون في ايطاليا في تلك الفترة، ومستلهمة «الشعلة ثلاثية الألوان» للفاشيين الإيطاليين الجدد في شعلة بثلاثية ألوان العلم الفرنسي، واقترحت على شخص من خارجها جان ماري لوبن - بعد أن رفض العرض آخرون - ترؤس هذه الجبهة. لكن «النظام الجديد» كانت تتوقع أن يبقى لوبن ألعوبة بيدها، وما حصل كان خلاف ذلك. بدلاً من أن يكتفي لوبن بدور «الواجهة»، كانت له حسابات أخرى: بناء حزب انتخابي ينتظم بحسب ايقاع الانتخابات الفرنسية المختلفة من رئاسية وتشريعية وبلدية (ثم مناطقية وأوروبية)، وليس فقط واجهة انتخابية لتنظيم ينتظر «الثورة القومية» على ما دأبت عليه فرق اليمين المتطرّف.
فللوبن تجربة أقدم من «الجبهة» ومن خارج قنوات اليمين المتطرف التي بقيت تحلم بإطاحة الثورية النظام الجمهوري لعقود، والتي يشاركها لوبن كرهه المطلق للجنرال ديغول قبل أي شيء آخر. فلوبن آت من تجربة قتالية: سطوع نجمه في وحدة المظليين في حرب الهند الصينية، هو الذي حمل زعيم حركة الدفاع عن التجار الحرفيين، بيار بوجاد، الى ترشيحه إلى البرلمان في كانون الثاني 1956. دخل الجمعية الوطنية وعمره 27 عاماً، لكنه لم يلبث أن طلب الاذن للالتحاق بالخدمة العسكرية مجدداً، للمشاركة في العدوان الثلاثي على مصر (انزال بور فؤاد) ثم في معركة الجزائر العاصمة عام 1957 حيث أشرف شخصياً على تعذيب الثوار المعتقلين، ولم ينف ذلك لاحقاً بل تفاخر بمنتهى الفظاظة.
وعينه اليسرى لم يفقدها في الحروب، إنما في مشكل انتخابي تلا عودته من الجزائر، واختلافه مع البوجاديين، وانشاؤه «جبهة المحاربين» دفاعاً عن بقاء «الجزائر الفرنسية». حدث الشجار الذي سيفقده هذه العين وهو يسوّق لمرشّح مسلم هو أحمد جبور لعضوية الجزائر العاصمة في البرلمان الفرنسي.
في السبعينيات، نجح لوبن في فرض سيطرته على «الجبهة الوطنية»، وأقصى المبادرين إلى تأسيسها الذين جاءوا به، وصار رجلاً غنياً بين ليلة وضحاها في أيلول 1976، عندما ورث رجل الأعمال الجبهوي هوبير لامبير الذي كتب كل ممتلكاته باسمه قبل مماته. أحاط نفسه بكوادر جاءت من مشارب مختلفة. فيكتور بارتلمي المخضرم، من الحزب الشيوعي إلى التعامل مع حكومة فيشي. بيار بوسكيه، المحارب في «الإس.إس - شارلمان» إلى جانب النازيين. وفرنسوا دوبرا، التروتسكي ثم «القومي الثوري» والمعروف بإنكار المحرقة التي حلت بيهود أوروبا، والذي قضى عام 1978 بتفجير سيارته. ويومها اتهم لوبن التنظيمات اليسارية المتطرف، ثم وجه الاتهام للمنشقين عن الجبهة. لعب دوبرا دوراً توجيهياً مهماً في تركيز نشاط الجبهة الإنتخابي ضد الهجرة غير الشرعية، في وقت لم تكن هذه الهجرة واسعة عددياً، وكان الارهاب في أوروبا لا يزال يحمل إما نكهة يسارية متطرفة وإما نكهة يمينية متطرفة، على ما حصل بتفجير دوبرا نفسه.
مهارات لوبن كخطيب، ترافقت مع مروحة واسعة من العلاقات السياسية والمالية مع طيف واسع من الشخصيات التي قد تختلف في الموقع والموقف انما يجمعها العداء الشديد لديغول، بوصفه «خائن فرنسا الجزائرية». لكن هذا لن يمنع لوبن، من ان يقتبس شعار ديغول «أوروبا الأوطان» لمناهضة السوق الأوروبية المشتركة، وفي ظروف الثمانينيات، والخيبة من وعود حكومة الاشتراكيين التي لم تتحقق، وتصارع اليمين المؤسساتي بين الشيراكيين والجيسكارديين، استطاع حزب الجبهة أن يحدث المفاجأة في انتخابات 1986 التشريعية، ويحصد 10 في المئة من الأصوات، ويستفيد من اعتماد النظام النسبي لينال 35 مقعداً في الجمعية الوطنية. وهنا سيستفيد لوبن من خدمات قيادي فذ انضم الى حزبه (رسمياً عام 1988)، آتياً من الديغولية، برونو ميغري. أجرى ميغري مسحاً شاملاً للفئات التي تنتخب الجبهة، وأظهر أن المطلوب هو التوجّه إلى فئات جديدة، وبالتحديد تلك العازفة عن المشاركة في الإنتخابات، وبالأخص الطبقة العاملة.
في صيف 1987، كان لوبن نجم استطلاعات الرأي، التي أعطته 17 بالمئة في تقديراتها، لينال في رئاسيات 1988 ما دون ذلك (14.5 بالمئة) ويحل رابعاً، وكان تراجع رقمه جراء الحملات عليه من يمين ويسار بسبب من موقف أبداه خلال الحملة وقتها واعتبر ابادة اليهود تفصيلاً واهياً في الحرب العالمية الثانية. قال هذا في فترة كانت فرنسا تصدر فيها حكم الاعدام على كلاوس باربي بعد أعوام طويلة من تخفيه، وتعيد فتح ملفات تعاون حكومة فيشي مع منظومة الابادة.
مع هذه الأصوات التي نالها، كان على اليمين المعتدل أن يطلب من جان ماري لوبن تجيير مؤيديه لانتخاب جاك شيراك (رئيس وزراء حكومة «المساكنة» منذ 1986) في الدور الثاني من رئاسيات 1988، لحرمان فرنسوا ميتران ولاية ثانية، وقصد وزير الخارجية شارل باسكوا لوبن بهذا الخصوص، لينال نصف دعم من طرف ناخبي الجبهة.
في اليمين المؤسساتي، تواجه من يومها منطقان. أحدهما يميل إلى عزل اليمين المتطرف، والثاني هو ما عبر عنه باسكوا يوم زار لوبن طالبا منه العون الانتخابي، حيث اعتبر ان «الجبهة الوطنية» تتشارك مع اليمين كله في القيم، وان كانت تعبر عنها بطريقة أكثر ضجيجاً أو تشدداً.
بالتوازي، قام جدل من يومها ولم ينته حول مسؤولية ميتران في دعم «الجبهة الوطنية»، ان يكن باهتمامه شخصياً بالمساحة المعطاة لظهور لوبن التلفزيوني، أو من خلال اعتماد النظام النسبي في انتخابات 1986، او من خلال وضع ميتران اكليل ورد سنوي على قبر الماريشال بيتان «بطل فردان»، وكان ميتران نفسه ابن اليمين المتطرف في البداية، واشتغل مع حكومة فيشي، لكنه عرف وقتها بأنه من «الفيشييين المقاومين».
نال لوبن 15 في المئة من التصويت في رئاسيات 1995. مع متغير مهم، يعود الى حد كبير، الى سياسة برونو ميغري الانتخابية. فلأول مرة، تصدرت «الجبهة» تصويت الطبقة العاملة، بـ30 في المئة من الذين انتخبوا، بينهم قسم كبير كان يصوت في الانتخابات السابقة للشيوعيين. اعتقد برونو ميغري أن اسهامه هذا في تحويل الجبهة الى حركة سياسية مستديمة سيمكنه من التنافس مع لوبن على زعامة الجبهة، الا انه كان متسرعاً، على حد توصيف جيل ريشار في «تاريخ اليمينات في فرنسا» الصادر حديثاً، وأساء تقدير شعبية لوبن. كانت لميغري أكثرية الكوادر الى جانبه، الا ان القاعدة الشعبية للحزب والناخبين كانت في صف لوبن. انتهى الأمر بإطاحة جماعة ميغري وإخراجها من الجبهة، لتشكل حزباً صغيراً على هامشها.
سلطة جان ماري لوبن كانت مطلقة على الحزب، يعرّف نفسه كـ«ملك ديموقراطي»، رغم تبنيه شعارات الدفاع عن الجمهورية. استخدم هذه الهالة المطلقة عام 1997 لتعيين ابنته مارين لوبن في القيادة مباشرة بعد رسوبها في الانتخابات الحزبية.
وصلت مسيرة لوبن الانتخابية الى نقطة الذروة عام 2002، حين وصل الى الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية، متفوقاً على رئيس الوزراء آنذاك ليونال جوسبان، ومع أن طوقاً جمهورياً عابراً لانقسام اليمين واليسار تشكل ضد لوبن وقتها، دعماً لجاك شيراك، الا أن لوبن نجح في جذب الاستحقاق كله الى موضوع المهاجرين غير الشرعيين والحزم في هذا الملف أمنياً وادارياً. تراجعه الى عتبة 10 في المئة في انتخابات 2007، و«اقتباس» نيكولا ساركوزي جزءا اساسيا من برنامج الجبهة الوطنية بما جعلها تخشى على مستقبلها السياسي، سيسرع بعد ذلك عملية اطاحته في زعامة الجبهة. أيضاً تقدمه في العمر، وتصريحاته التي رفض فيها ادانة تعامل الماريشال بيتان مع المانيا النازية في أعوام الحرب، ستساعد في سحب قرار سحب العضوية منه، وقد تولت عملية «الانقلاب» هذه، ابنته مارين. رد الأب باللجوء الى القضاء، وبمحاولات كاريكاتورية لتأسيس حركة جديدة تدعى «انقذينا يا جان دارك»، متمنياً الفشل لابنته مارين في رئاسيات هذا العام، وهي التي رأى فيها قبل سنوات احياء لملحمة جان دارك، قبل أن ينقل عواطفه الجان داركية الى حفيدته ماريون لوبن ماريشال!
مارين لوبن: التحسين المحدود لصورة «الجبهة»
يصفه أخصامه بالحزب الفاشي الجديد. يتردّد الأكاديميون في الأخذ بهذا التوصيف، ويختلفون في تحديد طبيعته، هل هو تشكيل سياسي شعبوي، وإن كان شعبوياً فكيف يفسّر أنّه استطاع أن يتحول الى حالة مستديمة في الحياة السياسية الفرنسية منذ ثلاثين عاماً، ولم ينتهِ بسرعة مثلما حصل للظواهر الشعبوية اليمينية الأخرى في التاريخ الفرنسي الحديث من «البولانجية» نهاية القرن التاسع عشر إلى «البوجادية» في القرن العشرين؟
أم أنّ تحديد موقعه باليمين المتطرف كافٍ؟ لكن حينها ما الذي يفسّر اختلافه عن كل تاريخ اليمين المتطرّف الفرنسي الذي ظلّ مغترباً الفكرة الجمهورية أو رافضاً لها، في حين يضع حزب «الجبهة الوطنية» نفسه تحت لواء الدفاع عن هذه الجمهورية العلمانية؟ «الجبهة الوطنية» ليست منظمة «النضال الفرنسي» التي أنشأها الملكي «الكاثوليكي الملحد» كما كان يصف نفسه، شارل موراس. ليست واحدة من تلك الحركات «القومية الثورية» التي تعد العدة لإنهيار نظام «الجمهورية الخامسة» للعودة إلى دستور «الدولة الفرنسية» التي أعلنها الماريشال فيليب بيتان في أيام الحرب العالمية الثانية.
«الجبهة الوطنية» حزب انتخابي. الإنتخابات تسيّر كل حياته السياسية، وهذا هو الفارق الأساسي بينه وبين تاريخ النزعات الشعبوية وتاريخ الحركات اليمينية المتطرفة في فرنسا. لكن هذا ما يجعله في نفس الوقت أكبر ظاهرة يمينية متطرفة وشعبوية في القارة الأوروبية اليوم. أكثرها جدية، وقدرة على الإستمرارية، وبشكل فرز مع الوقت سلالة سياسية، وان تكن سلالة سياسية مفككة، من جان ماري لوبن «الأب»، إلى مارين لوبن «الإبنة» التي عزلت والدها، إلى ابنة اختها ماريشال لوبن، أصغر عضو في تاريخ البرلمانات الفرنسية، والتي تمثل الجناح اليميني الشبابي الصاعد داخل الحزب، وتبدو أقرب إلى خط جدّها.
منذ الثمانينيات، ولوبن الأب يلجأ الى القضاء في كل مرة يصف فيها أحد حزبه بالفاشي أو حتى باليميني المتطرّف. في السبعينيات، كان يصنّف هو حزبه بأنه الحزب اليميني الحقيقي الوحيد، ثم عاد لاحقاً الى موال أنه حزب فوق هذه الاصطفافات البالية، وليست هذه المرة الأولى الذي يعرّف فيها أقصى اليمين نفسه بأنه لا يسار ولا يمين.
وراثة مارين لوبن الحزب عن والدها، واقصاؤها له، ترافق مع ارتفاع حظوظ النجاحات الانتخابية للحزب (بعد ان خاف الجبهويون لفترة من تراجعهم بعد أن «سرق» نيكولا ساركوزي برنامجهم حول المهاجرين وقضايا الاندماج)، بشكل جعلها تتقدّم الاستطلاعات منذ ثلاث سنوات (الى ان تراجعت بحسب مراكز الاستطلاع في الأسبوعين الأخيرين، وفي اليومين الأخيرين لصالح المرشح اليساري المعتدل ايمانويل ماكرون الذي يتقدم الترجيح قبل موعد الانتخابات، وتليه لوبن ثم فيون ثم ميلانشون).
لكن هل يمكن الركون للإستطلاعات؟ هل ثمة سيناريو ممكن لوصول لوبن الى الرئاسة نفسها؟
قبل عام، صدر عالم الاجتماع المعروف ميشال فيفيوركا كتابه «زلزال» بتخيل واقعة انتخابها بالفعل رئيسة، وبداية التصادمات الدموية في الشوارع في أعقاب اذاعة النتيجة المدوية. آخرون، تراهم يستعجلون سؤالها عن الكيفية التي ستغلق بها الحدود الوطنية فور انتخابها، أو عن الكيفية التي ستعتمدها للاستفتاء حول الخروج من الاتحاد الأوروبي.
لكن بريس تنتورييه مدير مركز «ايبسوس» يسخر تماماً من هكذا احتمالات. وينبه الى ان الاستحقاق الحالي يختلف عما سبق في ثلاثة أمور.
اولا، ان الرئيس الحالي لم يسع لتجديد ولايته. الأمر الذي يخلي ساحة المرشحين الحاليين من المسؤولية الأساسية حول الأوضاع في السنوات الأخيرة. فعادة يكون الاستحقاق الرئاسي الذي يلي الولاية الأولى للرئيس هو لتقييم تجربته وما اذا كان قادراً على مواصلة هذه التجربة، وهذا لم يحصل.
ثانياً، بحسب تنتورييه، ما من مرشح نجح في فرض موضوع رئيسي مركزي على هذه الانتخابات، بما في ذلك موضوعات الهجرة والإسلام الفرنسي ومكافحة الإرهاب. لم تكن الموضوعات عديدة ومشتتة مثلما هو الوضع اليوم، وهذا يضع حدوداً للتطرف الانتخابي ايضاً.
ثالثاً، فيما كانت كل من لوبن وفرنسوا فيون يستعدان لتجاوز «ثنائية يسار ويمين» نحو ثنائية «يمين واقصى يمين»، فان ترشيح الثلاثي ماكرون وميلانشون وامون فرض نفسه، لاعادة الحيوية لقسمة «يمين ويسار».
أمور أخرى يتوقف تنتورييه عندها في مقابلة أجرتها مجلة «الاوبسرفتور» في عددها الأخير.
لم يحصل ان كان نسبة ثلث من يعتزم المشاركة في الانتخابات متردداً كما هو الحال الآن، ونسبة كبيرة ايضاً تبدل أمزجتها بسرعة، يوماً بيوم، ساعة بساعة.
أما الذين يعتزمون عدم المشاركة من أساس، فانه يتوقع ان يتخطوا نسبة العزوف في كل الانتخابات الرئاسية السابقة. في الماضي، كانت هذه الظاهرة موجودة بين الطبقات الشعبية، لكنها اليوم منتشرة في الطبقة الوسطى أيضاً.
العزوف، هو بالمطلق، لصالح تقليص النسبة بين مارين لوبن ومنافسها في الدور الثاني. لكنه لن يسمح لها بأن تحصد ملايين من الأصوات التي ستبقى، بحسب تنتورييه، تحتاجه أياً يكن من سيبارزها على النتيجة النهائية.
في المقابل، عملت لوبن مطولاً على تبديل صورة الجبهة، للخروج من العزلة، وفرض نفسها كحزب يمثل التيار القومي في اليمين الفرنسي، وليس يميناً متطرفاً على هامش هذا اليمين. تبنت خطابا تشكيكيا بازاء الاتحاد الاوروبي، ثم متحمساً لتكرار التجربة البريطانية في الانسحاب منه فرنسيا، ما من شأنه ان يؤدي الى انهيار هذا الاتحاد. دعت للتحالف مع فلاديمير بوتين في مواجهة الارهاب، وايدت وصول اي كان ضد هيلاري كلينتون، سواء كان اليساري برني ساندرز أو دونالد ترامب. اولوية مكافحة «داعش» جعلتها تبرر لنظام بشار الأسد. في مطلع التسعينيات، سبقها والدها الى تأييد نظام صدام حسين، بعد ان كان والدها في الثمانينيات يعتبر نفسه أكثر المشجعين لاسرائيل وسياساتها ضد العرب.
والدها حارب من أجل ان تبقى «الجزائر الفرنسية»، وهي تريد ان تحارب تحول فرنسا الى «فرنسا جزائرية» أو ذات صبغة اسلامية. في نفس الوقت تريد ان تقول ذلك بشكل أكثر تطرفاً، ولا يؤخذ على انه خطاب فاشي أو يميني متطرف، بل خطاب «سيادي ناجز». اي تحاول ان تنتقي كلماتها، وكثيراً ما تتفلت الكلمات منها.
لكن اللافت هو انها عندما شعرت في الأسبوعين الأخيرين بأن النتائج في الدور الأول قد لا تكون كما كانت متوقعاً منذ ثلاث سنوات، فانها لجأت الى طرح أمور لم تتطرق اليها اصلاً في برنامجها الانتخابي المنشور، مثل اقفال الحدود الفرنسية.
قامت هذه المرأة بجهد كبير من أجل تطبيع صورة «الجبهة الوطنية» ونزع شيطنتها. هو جهد توقف عند حدود لم تستطع تجاوزها. فمن يريد ان ينزع الشيطنة عن نفسه عليه ان لا يسعى لشيطنة جماعات بأكملها، لا مباشرة ولا بالغمز، ومن يريد ان ينزع الشيطنة عن نفسه عليه ان يتوقف عن التبرير لديكتاتوريات في العالم الثالث، مثلما فعل والدها مع صدام، وتفعل هي مع بشار الأسد.
مع ما قامت به مارين لوبن على صعيد تحسين صورة الجبهة، فإنّ جزءاً من المناخ المحافظ الفرنسي لا يزال متردداً في دعمها. خصوصاً بين الكاثوليك المتدينين، فهؤلاء يأخذون عليها وعلى والدها بعدهم عن التدين الكاثوليكي، وعلاقاتهم الأسرية المفككة، واذا كان قسم من المشاركين في حركة «التظاهرة من اجل الجميع» تنتمي الى الجبهة، فان معظم من شارك في التظاهرات المليونية لهذه الحركة ضد زواج المثليين هم كاثوليك محافظون من خارج الجبهة، ولديهم مشكلة معها، أو يعتبرونها «وثنية جديدة»، على ما يفيده مقالة أخيرة لاوليفييه روا حول هذا الموضوع.
هل يستمر هذا المناخ الكاثوليكي المحافظ في تردده في دعم اليمين المتطرف، ويصوت لصالح فييون؟ هذا بعد مؤثر جداً ومنحى جداً عن ناصية الاهتمامات الرائجة عشية الاستحقاق.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك