هل مات حقاً هتلر؟ هل مات حقاً ستالين؟ أو ماو تسي تونغ، أو ول بوت أو الخميني؟، أو "عظماء" الطغيان الذين حاولوا تشكيل العالم على تصوراتهم اليوتوبية، أو الأيديولوجية، أو العنصرية، أو الدينية؟ الثلاثة المختارون دائماً، الذين يكاد لا ينازعهم أحدٌ في الاستبداد، واشعال الحروب والصراعات الأهلية والتصفيات والقتل والتهجير واللارحمة واللاأسف وحتى "اللاوعي".... هؤلاء الفرسان، فرسان الجحيم هم ستالين، هتلر، ماو تسي تونغ... والسؤال: كيف تكوّن هؤلاء حتى استنبتوا "جذورَ الشر"، كيف ترّبوا؟ ما الذي جعلهم مُسوخاً؟ أهو التفسير النفسي، أو المرضي، الوراثي، الأيديولوجي، الطفولة، الظروف، المحيط، التربية؟ حاول كثيرون ايجاد أجوبة لكنهم لم تتجاوز اسئلتهم فهم هؤلاء وأمثالهم في التاريخ القديم والحديث... وصولاً إلى اليوم. هؤلاء الثلاثة كبدوا في أقل من نصف قرن الانسانية 150 مليون قتيل أي ما قد تستغرق الحروب القديمة مئات السنوات...
نعود إلى هؤلاء لأنها ذكرى اندلاع الثورة الثقافية الماوية الخمسون والذكرى الأربعون لرحيل ماو. هذه "الثورة" التي امتدت عشر سنوات 1966 1977 وتسببت بمقتل نحو مليوني صيني. كانت قمة الجنون الماوي والتعبير الأمثل عن طموحاته المريضة، وأمراضه النرجسية والميغالومانية وهواجسه القصوى بالسلطة المطلقة مضحياً بعشرات الملايين ليصبح "القائد الأعظم الأوحد" كما كان "مُلهمه" ستالين وزميله هتلر.
وهذا يعني ان ماو "توج" كل مشاريعه الفاشلة السابقة بهذه الثورة الثقافية المزعومة والتي كانت في الواقع ثورة ضد الثقافة والعلم والمثقفين والمدينة نفسها بتاريخها العريق وعلاقاتها ونسائجها الاجتماعية.
فما الذي سبقها؟ كأنما كل عشر سنوات أو أكثر، كان ماو يبتدع "ثورة" أو "انتفاضة" أو مشروعاً... أو رهاناً ليعزز سلطته ودكتاتوريته الحزبية. ونظن أنها أولى "الثورات" "الرائدة" أو مفتتح هلوساته بدأت في عام 1947 عندما اطلق ماو ما سمّاه "الاصلاح الزراعي" في مانشوريا في الشمال الصيني الذي حرره "جيشه الأحمر" من المعارضة والذي يمتد حتى عام 1952. أهو "اصلاح" "زراعي" أم ذريعة، أم مواربة؟ يقول كثيرون من المتخصصين بماو، أن الاصلاح الزراعي هو محاولة لإعادة تشكيل المجتمع. أي لا علاقة له (أصلاً) لا بالزراعة ولا بالتحسين ولا بالتطوير. يقول المؤرخ فرانك ديكوتير "حاول ماو تدمير المجتمع كما كان منظماً ليعيد تشكيله لمصلحة أولويات الحزب". ولهذا فحتى عبارة "الاصلاح الزراعي" "خاطئة" و"مخادعة". ويقول ديكوتير: "في الفترة ذاتها حدثت اصلاحات زراعية في كوريا واليابان وتايوان من دون أي عنف".
"لكن الرفيق الأعظم فعل العكس". نظم حملات وحشية، مجانية لتحقيق أهدافه لأنه كما يقول المؤرخ ديكوتير لا يوجد في الصين أراضٍ اقطاعية مثل روسيا ولا طبقة نبلاء استغلالية، فأكثر من نصف الفلاحين يمتلكون أراضيهم، فقط 6 % مزارعون". فمن الصعب إيجاد "استغلاليين" واقطاعيين لتسليمهم إلى المحاكم الشعبية (الميدانية).. لكن هذا آخر همّ الشيوعيين فهم مَهَرَة في فبركة الحقائق. وطغت اشكال العنف بشكل بربري وقضت على مليوني صيني بحسب التقارير الداخلية للحزب. لكن في هذه البدعة سيظهر ماو أهدافه وأساليبه المقبلة في مواجهة الناس؟ أبالدولة كما فعل ستالين أم بواسطة العامة والناس أنفسهم؟ (يعني حرباً أهلية!). فستالين "رجل دولة" بالمعنى المتداول هو أي الدولة أي اجهزتها، أي بوليسها، هم الذين يعهد إليهم التصفيات والاغتيالات والاعدامات والترحيل. "انه شأن الدولة". السلطة. القمة. (كما يوضح ديكوتير).
الإصلاح الزراعي
اما ماو فيلجأ إلى الناس، إلى العامة والريفيين، من الأميين والسذج لتنفيذ "جرائمه". لكن أين دوره؟ "أولاً ارسال لجان إلى هذه المناطق (مانشوريا) لدراسة علاقات السلطة، واثارة النعرات القديمة، وقلب النسائج الاجتماعية على بعضها وتلفيق التهم ليرسم على أساس ذلك مخططاً ارهابياً للقرية، يشعل العنف بها بين المجموعات ذاتها... وهكذا صار سدت الميليشيات كل المخارج (كما يصف المؤرخ في المرجع ذاته) واجبرت الناس على حضور حفل "اعدام" "الاستغلاليين". ولم يتوقف الأمر عند "الفرجة" بل كان على كل واحد من هؤلاء الحاضرين المشاركة في هذه المسرحية الدموية فتنهال الشتائم على المدان والضرب والتعذيب ثم القتل. وهكذا دواليك في كل قرية محررة: فظائع ومذابح أطفال يرمون في المياه المغلية (كما تفعل مخابرات الأسد اليوم بالمعتقلين) أو يعلقون على شجرة وتسلخ جلودهم ثم يمثلون في جثثهم، ويقطّعون إرباً، أو يدفنون أحياء أو يذبحون أو حتى يتم نوع من التباري بالذبح والتقطيع والسلخ! هذه الحملة ذريعتها الاصلاح الزراعي لكن هدفها تفكيك البنى القديمة والاسلوب الأنجع جعل الناس يضرجون أيديهم بدماء بعضهم. انه "عقد الدم" اي كما يقول المؤرخ المذكور "الفعل المؤسس للجمهورية الشعبية". على كل واحد لكي يشارك في قيام هذه الجمهورية أن يساهم في التدمير الجسدي "لأعداء الطبقة" للتأكد من أن أحداً لا يتمنى "عودة النظام القديم"... من دون أن ننسى ان النظام القديم يتمثل في إبادة مجموعات تشانغ كاي تشيك.
إعلان الجمهورية الشعبية
لم يخفف من حدة العنف اعلان الجمهورية الشعبية... وفي ظل ذلك وبعدما نجح ماو في تخريب المجتمع وتأليبه على نفسه، ها هو يعلن مشروعه الثاني الكبير. فهو يريد أن يحقق شيئاً يتفوق به على ستالين بل وعلى لينين.. فهو يرى "نفسه" أكبر منهما. المشروع هذه المرة أدهى: انها "القفزة الكبرى" كما أسماها: في بلباله خطف الريادة الاشتراكية الشيوعية من الاتحاد السوياتي بتنفيذ معادلة "الاشتراكية الشيوعية" (بدعة رائعة جعلته يفتخر بنفسه كقائد ملهم للعالم. أما أهداف هذه القفزة في الجحيم، فمحاولة تغيير طبيعة الاقتصاد، لتحويل "المجتمع الزراعي" (فشل مشروعه السابق) إلى مستوى القوة الصناعية. المزارعون يصنعون الثورة الصناعية. وقد حشد لهذه المهمة كل الناس، من أطفال وشيوخ، ونساء وعسكر وشبان ومزارعون... والنتيجة "ان الجهود تضاعفت في المصانع"... وفي مؤازرة ذلك اممّ كل الملكيات الخاصة (نتذكر القذافي)، بما فيها الاحتياجات وأدوات المطبخ والطعام لتوزع في "كانتونات محددة" ليصبح الطعام سلاحاً (كما يقول بعض المؤرخين). انه العمل الإجباري ويسلط فوق العمال كل أنواع الترهيب. من يهرب يعاقب، يعذب، يعتقل ويقتل، ويبدو انه تأثر بهتلر، عندما قرر تصفية كل المرضى والنساء الحوامل والمسنين بمنع الطعام عنهم. فيموتون جوعاً... وراحت المجاعة تنتشر في كل أرجاء الأرياف "الزراعية".. ابتداء من 1958. ولكن وكما توقع الكثيرون فان القفزة الكبرى قصرت إلى خطى محدودة، متقطعة، وبدأت أعراض فشلها بعد شهرين من انطلاقها! (التحقت بالإصلاح الزراعي).
وكما تجمع المصادر فانه بين 1959 و1960 سقط أكبر عدد من الناس جوعاً أو اعداماً، أو تعذيباً.. أي كل أساليب الابادة..
لكن في العام 1960 كان عليه ليمّول شراءه معدات "صناعية" بيع انتاج محصولات الحبوب إلى الخارج. لا محصول إلى الداخل. الحصيلة كما تتفق معظم المراجع سقوط 45 مليوناً من الناس. هنا بالذات، راحت المعارضة داخل الحزب تناقش هذه الخطوات التدميرية والشكل الذي أصاب "قفزته الكبرى" فما كان من ماو إلا ان صفاهم عن بكرة أبيهم وأمهم عام 1959 وقتل مئات الكادرات الحزبية... واستبدلها كما يقول المؤرخ المذكور ديكوتير بجماعات تمتثل لأوامره بشكل مطلق. وهكذا تمت سيطرة ماو على الدولة تماماً. فلا معارضة... ولا منتقدون. بل شعب عبيد لا أكثر ولا أقل.
توقفت هذه "المغامرة الجحيمية" عام 1960.. عندما اقتنع "القائد الملهم" والناس والمراقبون أن كل ما فعله... قد فشل، إلا تعزيز استبداده الأحادي.
الخطأ المحرم
تقول بعض المصادر ان ماو العظيم لا يمكن أن يعترف لا بخطأ ولا بفشل. فالآلهة مكتملون! وكان من الطبيعي ان يحمّل اعداء الطبقة والمخربين و"المندسين" مسؤولية كل ما جرى. لكن من الطبيعي ايضاً ان يحط هذا الفشل "العظيم" من صورته الالهية ومن موقعه الاسمى. وكما ابتدع، "القفزة الصناعية الكبرى" ها هو يعلن "الثورة الثقافية"... لكن هذه المرة ليس في الأرياف وانما في المدن. جاء دور المدينة لتفرغ من هوياتها الابداعية والثقافية والتعليمية.. ومن روحها وتاريخها.. هذه المرة، فعلى "الثوار" الجدد ان يزحفوا على كل البورجوازيين، وعلى من تبقى من المعارضين "داخل الحزب" ويصفّوا "اعداء الثورة"! انها ذريعة أخرى لتعزيز سلطته "العظمى" كمرشد أوحد في الصين (آنئذ 600 مليون نسمة) ولم ينس اطلاقاً طموحاته، فمن "الاصلاح الزراعي" إلى "القفزة الكبرى" لإحداث ثورة صناعية إلى بلورة صورته الداخلية والخارجية كزعيم أيضاً (أكبر من ستالين ولينين)، وطبعاً أكبر من خروشوف الذي أعاد الاتحاد السوفياتي إلى "الرأسمالية". إنها فرصة أن يحمل راية الشيوعية، الاشتراكية، الموجهة ضد كل ما هو رأسمالي وغربي. يقول المؤرخ فبعد تخلي خروشوف عن دوره التاريخي ومصالحته مع الغرب، فالعالم، في رأي ماو، يحتاج إلى ثورة جديدة، ربما عالمية، وكونية، ليحل فيها محل الاتحاد السوفياتي، في محاربة الامبريالية، والثقافة الرأسمالية.
الثورة الثقافية
فماذا يتطلب ذلك؟ إذا كان ماو نجح في "الإصلاح الزراعي" في تدمير البنى الاجتماعية القائمة، وفي "القفزة الكبرى" بناء "دولة صناعية"، فإنه انتقل حالياً إلى ما هو ايديولوجي أي ما يتصل بالمعسكر اليساري والشيوعي والاشتراكي داخل الصين وخارجها. لينسف كل ما سبق عام 1949، وكل ما هو قائم، أو ما هو من رواسب الاقطاع(!)، والبورجوازية، وإذا كان في "المغامرتين" السابقتين لجأ إلى الفلاحين والمزارعين والبسطاء والأميين، فها هو يدق أبواب المراهقين في المدن، من طلاب وشباب، في تنظيم مؤطر سمي "الحرس الأحمر" عام 1966، والهدف مزدوج ضد المجتمع والطبقة الثقافية من أساتذة وكتّاب وشعراء وصحافيين ومتنورين، وكذلك ضد الحزب نفسه. أفلَتَ هؤلاء المراهقون الذين لبوا نداءه، على معلميهم، فقتلوا كما تقول الإحصاءات 1700 مدرس. قتل الطلاب مدرسيهم لأنهم "بورجوازيون"، وأعداء الثورة. كما وجه بعض الفئات المدينية للزحف على الحزب (نتذكر القذافي)... كل ذلك في عام انطلاق جنونه "الثقافي".
يقول بعض المصادر أن عام 1967 هو الأرهب، والأكثر دموية، والأهول... عندما أمر ماو الجيش أن يتدخل إلى جانب الشعب (نتذكر آل الأسد وخامنئي وبشار!)... وسقط في هذا الجنون الدموي، والبارانويي، والفصامي، عدة ملايين. إنها حرب أهلية، لكن مَنْ ضد مَنْ؟ إنها الفوضى "الكبرى" حيث تم تدمير كل شيء، بحرب إبادة للثقافة، وروح المدينة، باسم "القائد الأعظم" ماو!
هذه الثورة كانت الضربة الأخيرة لكل "بروز" سياسي أو ثقافي، في ظل ماو. فالجميع تملكتهم الرهبة، والذعر، والخوف... أي الخضوع! وهذا ما كان يريده ماو منذ بدء "ثورته الزراعية"، فإلى "الصناعية" فإلى الثقافية! فمفاتيح الصين كلها باتت بين يديه...
لماذا؟
السؤال: لماذا نسترجع سير هؤلاء السفاحين؟ الجواب بسيط، لأنهم انبعثوا في قياداتنا وأحزابنا وفي العالم. فحافظ الأسد استلهم ستالين مثل صدام، والقذافي استلهم ماو (عند الزعيم الصيني الكتاب الأحمر، وعند الزعيم الليبي الكتاب الأخضر)، وعند الثاني اللجان الثورية، وعند الأول لجانه الثورية أيضاً، القذافي ادعى أنه أعظم من عبدالناصر، وماو ادعى أنه أعظم من ستالين. وأساليب القمع والتعذيب وأشكاله استوحاها "زعماؤنا" من هؤلاء الفرسان الثلاثة: هتلر، ستالين، ماو. بكل فظاعتهم، وجنونهم لبث الرعب في قلوب شعوبهم والتربّع على السلطة المطلقة: نقول "صين ماو" و"روسيا ستالين" و"ألمانيا هتلر"، كما نردد "سوريا الأسد" و"إيران خامنئي"، و"ليبيا القذافي" و"روسيا بوتين"... حتى أسماء الجمهوريات والبلدان استبدلت بأسماء هؤلاء السفاحين!
وهذا يعني، خصوصاً من خلال ما نشهده اليوم من طرق الإبادة، والتدمير، والتهجير، والتمثيل في الجثث، وقطع الرؤوس، وسلق المعارضين في المياه المغلية... هذا يعني أن هتلر وستالين وهولاكو وماو وبول بوت... ما زالوا عندنا!
ما زالوا في مخوخ السفاحين الذين نشهدهم اليوم بكل عظمتهم الدموية!
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك