أشفق على الفوج الأخير من السفراء المصريين الذين تقرر ترشيحهم للعمل في مواقع مهمة في الخارج.
أشفق عليهم وعلى ديبلوماسيين غيرهم من مختلف الجنسيات. كلهم معرضون ليوم يتناقل فيه الانترنت توقيعاتهم على مذكرات ورسائل مرسلة منهم إلى حكوماتهم، في شأن ظنوا أنهم أحاطوه بأستار وابتكارات شفرية تحميه من عيون وعبث وتلاعب أطراف ثالثة.
مرت أيام لن تعود. كان السفير يكتب مذكرة ليرفعها إلى وكيل وزارة خارجيته، وهو واثق أن المطلعين عليها لن يزيد عددهم عن عدد أصابع اليد الواحدة أو اليدين، وبخاصة إذا تضمّنت ما يمكن أن يثير فضول أجهزة أخرى غير وزارة الخارجية.
أستطيع، وإن بصعوبة، أن أتماهى مع سفير هذه الأيام الذي يكتب مذكرة يعرف مسبقاً أن قراءها قد يتجاوز عددهم الألف وربما المليون. أظن، بل لعلي واثق من أن هذا السفير أو المبعوث الديبلوماسي الكبير، يقرأ مرتين أو ثلاث مرات كل سطر، وربما كل كلمة، قبل أن يصدر أمره بتسليمها إلى الانترنيت. المؤكد أن قراء هذا السفير صاروا بفضل تسريبات «ويكيليكس» أكثر عدداً وتنوّعاً من قراء كتاب وأدباء عمّت شهرتهم الآفاق. المؤكد أيضاً والجديد في الوقت نفسه، أن مذكرات ورسائل هذا السفير صارت تترجم إلى لغات عديدة، وتحظى بتعليقات مهمة، وتؤثر بشكل مباشر في صناع السياسة والرأي العام في دول كثيرة. كان حلم أي سفير أن يؤثر ولو قليلاً في فكر وقرار رئيسه المباشر، هو الآن يؤثر من دون نية أو قصد في فكر وقرارات رؤساء آخرين، وفي قطاعات رأي عام لم يفكر أنه سيصل اليها في أي يوم وتحت أي ظرف.
هذه السفيرة أو السفير الذي أشفقتُ عليه حين علمتُ أنه يتحرك من مكان إلى مكان في حراسة مشددة، لا يزور ولا يُزار إلا بعلم الأمن، أمنه الشخصي والأمن الوطني وأمن الدولة المضيفة. ينام ويستيقظ والكاميرات المسلّطة عليه لا تنام. ورد في رواية أحدهم عن فترة عمله في عاصمة عربية أنه اكتشف وجود كاميرا في حمام جناحه بالفندق. أضاف ساخراً أنه كان يقضي ساعات كل يوم وهو يحاول منع الاتصال المباشر بين جسمه وعدسة الكاميرا، قبل أن يقرّر في النهاية نسيان الأمر برمته والعودة الى ممارسة هواية الغناء الأوبرالي أثناء استحمامه غير عابئ بالصورة أو بمن يصوّر وما يُصوّر.
ليس جديداً في عالم الديبلوماسية النقص في «خصوصية» الديبلوماسي وافتقاره إلى ممارسة الحياة بحريّة مناسبة، الجديد هو الفقدان الكامل للخصوصية والحرية بالإضافة إلى القيود الذاتية التي صار يفرضها التوقع المستمر لتسرّب ما يكتبه. لم يعد الديبلوماسي آمناً على سرية المعلومات التي يتحصل عليها، ولم يعد واثقاً من أن ما يكتبه أو يُوصي به اليوم قد يعود عليه بعد سنوات طويلة أو قصيرة بالضرر البالغ أو بسمعة جرى تشويهها.
ولكني أشفق أيضاً على الديبلوماسي، والمصري تحديداً، منذ أن أضيفت إلى مهامه مهمة جديدة، صعبة وسخيفة وثقيلة. الديبلوماسي المصري كديبلوماسيين من دول عديدة، مكلّف الآن بأن يقضي معظم وقته ووقت زملائه في السفارة يتابع الإرهاب بشتى أنواعه وألوانه ومصادره، ويدافع عن حكومة «بلاده» ضد اتهامات باستخدام القمع والعنف ضد خصومها. واجبه، كما نعرف وكما تعلّمنا، وكما علمنا، أن ينفذ ما يصدر إليه من تعليمات من دون مناقشة، فإن تصادف وكان للديبلوماسي رأي مخالف للتعليمات فليكتمه وينفذ، ثم يعترض همساً إن شاء أن يعترض. أما إذا تحوّلت التعليمات لتصبح «استراتيجية دولة» وكان ما يزال رافضاً لها، فواجبه أن يستقيل إذا تعذّر عليه التعايش معها وتنفيذها حرفياً.
الديبلوماسية، كما كتب ديبلوماسي غربي مخضرم، هي خط الدفاع الأول عن الدولة، هي الترجمة الدقيقة «للاستراتيجية القومية». يقول شاس فريمان في مقال نشره بعنوان «أزمة أميركا الديبلوماسية»، إن الديبلوماسية يجب أن تسبق العمل العسكري في التعامل مع أي موقف صعب مع دولة أخرى. هي الخطوة الأولى في الدفاع، وهي أيضاً الخطوة الأخيرة، فما من حرب تنشب وانتهت إلا وكانت الديبلوماسية جاهزة لتثبيت هزيمة الخصم في اتفاقيات ومعاهدات، وإقناعه بجدوى التعايش مع الوضع القائم الجديد برغم هزيمته. بمعنى آخر، الديبلوماسية وليس المؤسسة العسكرية ولا أي مؤسسة أخرى الجهاز المسؤول عن صياغة السلام. الآن يدرك الديبلوماسيون العرب وإن متأخرين جداً وبعد تجارب باهظة التكلفة أنه لا يجوز أن ينشغل الديبلوماسي عن مهمة تفادي الحرب وتسوية النزاعات وإدارة المفاوضات بمهمة تصعيد الخلافات وتعميق التوتر. ليس سراً أن بعض أقطارنا تستخدم ديبلوماسييها في ما لا يجيدون، وأتمنى ألا يجيدوه، وهو التمهيد للحرب وتصعيد الخلافات وإثارة الأحقاد.
سيجدون في انتظارهم وضعاً جديداً في العمل الديبلوماسي، صنعته ظروف ما بعد الحرب الباردة. أخصّ بالذكر ظاهرة تراجع مكانة الجهاز المسؤول عن صنع السياسة الخارجية في عديد الدول لمصلحة مؤسسات الأمن المكلفة بحماية النظام الحاكم. سمعت من ديبلوماسيين عرب وأجانب في كل مكان ذهبت اليه الشكوى من أن مؤسسات أمنية وأشباه مؤسسات صارت تنافس وزارة الخارجية في تنفيذ السياسة الخارجية للدولة، وأغلبها يتدخل في صنع هذه السياسة. جاء وقت كانت الديبلوماسية تفخر بأنها ذراع الرئيس الأطول والأوحد في الدفاع عن سياساته الخارجية، وكانت لها الكلمة الفصل في قضايا حيوية تتعلق بالسلم والحرب والأمن. لم يعد الأمر كذلك. أكثر الديبلوماسيين المصريين تحديداً ضجّوا بالشكوى من سلوكيات إعلامية في وطنهم تنسف أولاً بأول ما ينجزون. صار مألوفاً في الإعلام المصري، والعربي عموماً، التعرض بالتشويه والإساءة لسياسات دول وثقافات شعوب وشخصيات حكام من دون وازع من ضمير أو فهم لمصلحة وطنية أو تقدير للتكلفة الباهظة التي تتحمّلها أرصدة الوطن السياسية، وهي أرصدة، أو ما تبقى منها بعد التبديد، منهكة.
ديبلوماسيون آخرون يعتقدون أن معظم السلبيات التي أساءت إلى سمعة السياسة الخارجية المصرية، ودور مصر الإقليمي والدولي كانت بسبب تدخّل مؤسسات أمن مصرية في إصدار توجيهات مباشرة للديبلوماسيين تتناقض والتوجّهات الاستراتيجية المتفق أو المتوافق عليها، ومع تعليمات وزارة الخارجية ومصالح الوطن المتشعبة والمتشابكة. يعتقدون وهم على حق، أن الاختراق «غير المسؤول» لمسيرة تنفيذ السياسة الخارجية المصرية كانت سبباً رئيساً في انحسار مكانة مصر، ثم في تدهور «هيبة الدولة» في مصر، ومن ثم في ثورة نشبت لاستعادة هذه الهيبة.
كثيرون في مناصب القيادة في الديبلوماسية المصرية، كما في غيرها من الديبلوماسيات العريقة، واثقون من أنهم الأقدر على لعب دور مهم في تعزيز هيبة بلادهم، لو أعيد لقوى الحكم توازنها واستعادت السياسة الخارجية مكانتها، وحلّت درجة أعلى من الشفافية محل الدرجة القصوى من التكتم والتعتيم الحاكمة للعلاقات بين مؤسسات الدولة. أتوقع أن تحاول الخارجية المصرية أن تنشط خلال الفترة المقبلة من أجل تثبيت مكانتها بين غيرها من المؤسسات، التي يسعى كل منها لملء مساحة أكبر من قدراتها وإمكاناتها ودورها في إعادة بناء الدولة. أتوقّع أن يتقدم الديبلوماسيون الصفوف ليكونوا أول من يعلق في الإعلام على الأحداث الخارجية. أدعوهم لزيارة الجامعات الإقليمية في أنحاء مصر كافة، للاستماع إلى «الناس»، أصحاب المصلحة الحقيقية في تنوّع علاقاتنا العربية والإقليمية، وإرضاء فضولهم عن السياسة الخارجية والعمل الديبلوماسي.
لن يغفر التاريخ ولن تغفر الشعوب للديبلوماسيين خطأ تقع فيه مؤسسة من مؤسسات الدولة أثناء ممارستها علاقات مع الخارج. لاحظنا كيف ألقوا على الديبلوماسية المصرية بتبعة أخطاء ارتكبها هواة، أثّرت سلباً على زيارة رئيس مصر لألمانيا. تابعنا أيضاً، بكثير من الانزعاج، الهجوم الذي تعرضت له الديبلوماسية النيجيرية، عندما ارتكب رئيس نيجيريا في ألمانيا خلال انعقاد مؤتمر قمة السبعة الكبار أخطاء جسيمة. منها أنه خاطب المسؤولين الألمان كممثلين لدولة ألمانيا «الغربية»، غير مدرك لحقيقة أن هذه الدولة اختفت من الخريطة قبل ربع قرن لتحل محلها ومحل المانيا «الشرقية» دولة المانيا الاتحادية. من الأخطاء أيضاً أنه نادى على السيدة ميركل بالسيدة ميشيل، واعتبرها رئيسة الجمهورية وليست مستشارة ألمانيا. لم يكن مفاجئاً، وإن كان ظلماً بيّناً، إلقاء المسؤولية كاملة على الديبلوماسية النيجيرية التي لم تلقن الرئيس المعلومات الأساسية المتعلقة برحلته إلى قمة السبعة العظام.
أشفق عليهم، صديقات وأصدقاء، وعلى كل الديبلوماسيين العرب، كلما خطر ببالي أنهم مطالبون بشرح طبيعة ما يحدث في الشرق الأوسط، ومطالبون بتفسير ما وقع من ثورات خلال «الربيع العربي» وما وقع لها، ولا أظن أن كثيرين منهم سوف يلجأون لنظرية المؤامرة استسهالاً أو تهرباً، هم يعلمون أنهم إن استسهلوا أو تهربوا كعادة بعض القوم هذه الأيام، فقدوا احترام سامعيهم، وربما أغلقت في وجوههم مصادر معلومات وشبكات علاقات طوال مدة إقامتهم.
كانت، وما تزال، فرصة رائعة لديبلوماسياتنا العربية مراقبة تجربة المفاوضات المثيرة التي تقودها الديبلوماسية الإيرانية مع ديبلوماسيات الدول العظمى والخبرة التي تولّدت عنها، وكانت، وما تزال، مقارنة مفيدة تلك التي يجب أن نُجريها بين سلوك الديبلوماسيين الأتراك في سنوات انتعاش السياسة الخارجية التركية تحت شعار «صفر مشاكل»، وسلوكهم الراهن في سنوات الانحسار منذ أن اتخذوا موقف الدفاع عن القمع في بلادهم وتجاوزات حكومتهم.
قلبي مع ديبلوماسيينا.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك