لا يبدو، حتى الآن، أن حركة حماس باتت جاهزة للنزول عن شجرة الانقسام، والتفرد بالقرار السياسي، والعودة، بعد ذلك إلى أحضان الهيئات الوطنية الجامعة لكل الأطراف الفلسطينية، بما في ذلك اللجنة التنفيذية، والمجلس المركزي الفلسطيني.
ولا يبدو، حتى الآن، أن حكومة الدكتور رامي الحمدالله، وهي من حيث المبدأ حكومة التوافق الوطني استطاعت، رغم الحوارات الثنائية بين رئيس الحكومة وقيادة حماس، ورغم الزيارات المتكررة إلى القطاع، بات باستطاعتها أن تتجاوز العراقيل والمعوقات التي ما زالت تعطل تولي الحكومة مسؤولياتها في القطاع، بمعزل عن مزاحمة حمساوية ذات صيغة تعطيلية، تارة من داخل الوزارات نفسها، حيث بات لحماس نفوذ يفوق نفوذ أي نفوذ آخر، وتارة أخرى من خارج الوزارات، حيث الهيمنة الكاملة في القطاع، هي لحماس، دون أي منازع.
حماس تشترط لدفع مسيرة إنهاء الانقسام إلى الأمام، القيام بخطوة أولى هي اعتماد 46 ألف موظف في مؤسسات السلطة في وقت يدرك فيه الجميع عجز هذه السلطة على تسديد مرتبات موظفيها الحاليين، بفعل الحجر الإسرائيلي لأموال المقاصة. كما تدرك حماس أن ما من دولة، مهما بلغ نفوذها الاقتصادي مبلغه، بإمكانها أن تعتمد هذا الكم من الموظفين دفعة واحدة، دون ترتيبات اقتصادية ومالية تضمن تغطية فاتورة المرتبات الجديدة، ودون توفير مداخيل إضافية تغطي الموازنة الرسمية. فكيف بسلطة تعتمد في موازناتها على الضرائب، والقروض والهبات والمساعدات، وتشكو أساساً من عجز مالي كبير في موازنتها، فضلاً عن القروض المستحقة عليها، والمؤخرة السداد، بسبب الأزمة المالية الخانقة، ما أدى إلى وقوع عجوزات وتقصيرات منها على سبيل المثال التقصير في المساهمة في إغاثة اللاجئين الفلسطينيين في سوريا، بسبب أوضاعهم المأسوية المعروفة.
حماس تشترط "المشاركة" في إدارة المعابر، خاصة معبر رفح مع الجار المصري. والمشاركة تعني أن تشارك حماس بميلشياها المسلحة، إلى جانب حرس الرئيس عباس، في إدارة المعابر. هذه الخطوة تستلزم أولاً دمج عناصر حماس في حرس الرئاسة، أي بتعبير أخر توسيع نفوذ حماس في الأجهزة الأمنية، بما فيها حرس الرئاسة، الجهاز الذي ما زال يقتصر حتى الآن على لون سياسي واحد هو اللون السياسي المحسوب على الرئيس عباس. ونعتقد أن مثل هذا الشرط يدخل، بالنسبة لرئاسة السلطة الفلسطينية، في سابع المستحيلات، لأنه سيعني اختراقاً أمنياً وسياسياً لحرس الرئاسة، وهو ما لن يحوز، ليس فقط على موافقة الرئيس ورضاه، بل وكذلك أطراف عربية وإقليمية ودولية منها على سبيل المثال طرفان مصر، والاتحاد الأوروبي.
مصر، التي تعتبر تواجد عناصر حماس، تحت أي عنوان كان، خرقاً أمنياً لجوارها، خصوصاً وأن حماس متهمة من قبل القاهرة بالتورط بالأعمال الإرهابية ضد الجيش والأجهزة الأمنية في مصر. لذلك من الطبيعي أن ترفض القاهرة تواجد عناصر حمساوية على المعبر، لأنها ترى في ذلك محاولة من حماس لاستغلال المعابر، بما لا يخدم المصلحة المصرية.
والاتحاد الأوروبي، الذي يرفض بدوره، أن يمارس وظيفته في الرقابة على المعابر، بموجب اتفاق المعابر الفلسطيني الإسرائيلي، إلا برضى الطرفين، رام الله وتل أبيب. ومعلوم مسبقاً أن تل أبيب ترفض مشاركة حماس في إدارة المعابر. ما يعني، بالضرورة، امتناع الرقابة الأوروبية. أي مواصلة تعطيل عمل المعابر.
وهكذا تفضل حماس أن تبقى المعابر مغلقة، وأن يبقى القطاع خلف الحصار، على أن تقدِّم "تنازلاً" ليس هو في الحقيقة بتنازل، لأنها لم تتواجد مسبقاً على المعابر، وشرطها الجديد، يدخل في باب الاحتفاظ بالهيمنة والسيطرة على القطاع، ومنع الحكومة الفلسطينية من أن تتولى مهماتها بالكامل، دون مضارب، ودون شريك مزاحم.
ولا تتردد حماس في فرض ضرائب جديدة على التجار والباعة في القطاع، وتقوم بجبايتها لصالح الصندوق الخاص بها. ولا يمكن لمثل هذه المعلومات والممارسات إخفاؤها، لأنها تمارس في العلن، وبموجب ايصالات رسمية. ما يؤكد أن حماس، ما زالت، رغم وجود حكومة في رام الله، هي "حكومة توافق" (بشكل رئيسي بين فتح وحماس) تمارس سلطتها المتفردة في القطاع، وتعطل على حكومة رام الله دورها. الأمر ذاته ينطبق على جباية رسوم الكهرباء، والرسوم على معابر القطاع مع الجانب الإسرائيلي، حيث "ضباط الارتباط" ما زالوا من حماس، وحيث الضرائب على الشاحنات والمسافرين، تجبيها مالية خاصة بحركة حماس. وهذا شكل فاقع من أشكال الانقسام الذي ما زال قائماً وساري المفعول.
أما القضية الأكثر خطورة، فهي محاولة حماس إدارة ملف إعادة إعمار ما دمره العدوان الإسرائيلي في قطاع غزة، من خلال نسج علاقات مباشرة مع المنظمات الدولية، بإسم الحكومة الفلسطينية، ومن خلال كبار الموظفين في الإدارات الرسمية، المحسوبين على حماس، والمتمردين على حكومة رام الله. وهذا يقود، بالتالي، كما توقعت أكثر من جهة، إلى قيام إدارة ذاتية، خاصة بحماس، لإدارة شؤون قطاع غزة، تحت "قبعة" السلطة وعناوينها المختلفة.
إن مثل هذه الإدارة، فتحت الباب لانتشار الفساد في أوساط المشرفين على إعادة الإعمار، حيث بات الحديث عن سوق سوداء في قطاع غزة لمواد البناء، يدور علناً في الدوائر المعنية، وحيث بات فرض الضرائب على المستفيدين من مساعدات إعادة الإعمار، لصالح صناديق مجهولة العناوين والهوية، أمراً عادياً ألا يجد من يحقق فيه. وبحيث ـ أيضاً ـ بات الحديث عن هدر صمود الناس وتضحياتهم في مواجهة عدوان "الجرف الصامد"، نغمة على كل لسان.
وإذا ما أضفنا إلى الملف، مسألة المفاوضات السرية، التي تتحدث أوساط رسمية عنها، بين حماس وإسرائيل، للوصول إلى اتفاقية هدنة طويلة الأمد، تخرج القطاع من دائرة الصراع ضد الاحتلال الإسرائيلي، نصل إلى لوحة سياسية شديدة الخطورة، لا يستبعد في إطارها فصل القطاع إدارياً، وسياسياً، عن الضفة، وسلخه عن المسار الكفاحي الفلسطيني، وتحويله إلى "إمارة" صغيرة تدير شؤونها حماس، تنفتح على الجانب الإسرائيلي، أكثر مما تنفتح على الجانب المصري. تستند في علاقتها مع إسرائيل إلى اتفاقية هدنة بضمانات غربية، بينما تستمر علاقاتها المتوترة مع القاهرة، ولعل مثل هذه السياسة تخفي وراءها رهانات حمساوية على تطورات إقليمية ذات شأن، تعيد رسم الخارطة الجيوسياسية للمنطقة، وبحيث يكون لها، موقع ما في هذه الخارطة انطلاقاً من هيمنتها على قطاع غزة، وسيطرتها عليه. وهو ما يدخل القضية الفلسطينية في تعقيدات جديدة من شأنها أن تعود بالضرر الفادح على المشروع الوطني لشعب فلسطين.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك