لم يكن يوم السابع عشر من تشرين الأوّل ٢٠١٩ يومًا عاديًا كالأيّام التي سبقته، والتي حملت في طيّاتها، خلال الأشهر الأخيرة، غضبًا صامتًا وقنوطًا موجعًا وارتباكًا مبكيًا لدى اللبنانيين.
في سوسيولوجيا اليأس الشعبي، يمكن أن نسترسل في الحديث عمّا فُرِض على كلّ اللبنانيين جورًا، من انعدام العدالة والكرامة والأفق على كلّ المستويات، فيما كانت السُلطة السياسية، وبعض حاشيتها الانتفاعيّة، تُمعن في تسويق خيارات إنقاذٍ وهميّة ومسارات إصلاح واهمة، وهي بطبيعتها سلطة مرتهنةٌ لمربّع يرسّخ منظومة تقوم على تحكّم طرف بأجندةٍ استراتيجية وطرف آخر يحكم بموجب أجندة تكتية.
أمام هذا الواقع أُفقِر اللبنانيون، وخضعوا في حقوقهم لإذلالٍ مُمنهج. طبعًا، هذا الإفقار والذلّ لا يعفيهم أبدًا من مسؤوليّتهم في تأييد السُلطة السياسية وإعطائها مشروعيّة تمثيليّة في الانتخابات الأخيرة، التي لم يتخلّلها سوى بعض من التغييرٍ الخجول، والحديث هنا عن نهجٍ وليس شخصيّات. إلّا أن الإقرار بهذه المسؤوليّة، لا يعني إطلاقًا غياب عوامل أخرى تظهّرت منذ العام ٢٠١٥ في بدايات حراكٍ تغييريّ واعد، وأسهمت في التخفيف من أعباء هذه المسؤوليّة. إلا أن أفرقاء السُلطة استمروا في ابتداع ملهاةٍ تِلو الأخرى وأوهام يتخلّلها استقطابات مصلحيّة وطائفيّة ومذهبيّة ممزوجة بانخراط المجتمع الدولي، أو بعضه الفاعل، لمدّ هؤلاء الأفرقاء بجرعات صمود متواترة، على قاعدة أن الشرعية الدستورية وحماية المؤسّسات والاستقرار في حدّه الأدنى أولويّة.
كلّ ذلك أوصل إلى انكفاء الناس، على مدار سنوات، عن أية محاسبة فاعلة نتيجة فقدانهم الأمل بانقلاب إيجابي في المنظومة تحدثه السُلطة نفسها في مواجهة مجموعة تحدّيات بنيويّة، وتحديدًا مالية واقتصادية واجتماعية. لكنّه أثمر أخيراً في ١٧ تشرين الأوّل ٢٠١٩ رجاءً جديدًا للبنان أفضل، وفي هذا رمزيّة استثنائية، إذ تزامنت الثورة مع اندفاعةٍ هادئة للاحتفاء بالمئوية الأولى للبنان الكبير. وهذه الصُدفة التزامنية، تحتمِل تفكيرًا مُعمّقًا مربوطًا بما تريده هذه الثورة، على مختلف مستوياتها وانحيازاتها، للبنان.
١- الثورة على المستوى الأخلاقي
إفقاد الشأن العام نُبل النضال للخير العام، أفرغ فضاء السياسة في لبنان من سُلَّمِ قِيَم الجدارة والنزاهة والضمير والمحاسبة. انساق الشأن العام، بأربابه القدامى والطارئين، إلى مساحةٍ مركنتيليّة مكيافيلليّة ضيّقة دفعت باتجاه مأساةٍ في المشتركات لحساب زهوٍ بالخاصيّات. إلّا أن الثورة ساهمت في استعادة المستوى الديونتولوجي في الشأن العام، بمعنى إعادة المعيار الأخلاقي للعمل السياسي، لما فيه مصلحة المواطنين وبعيدًا عن التسلّط واستتباع الرعايا واستباحة الموارد.
٢- الثورة على المستوى الاقتصادي - الاجتماعي
أدّت تعرِية لبنان من ميزاته التفاضلية الاقتصادية، حتى الريعيّة منها، والتي مارست السُلطة فيها تدميرًا مُحكمًا، إلى تحوّل، ساهمت فيه الثورة، نحو نقاش في طبيعة الاقتصاد اللبناني، وما يجب أن يكون عليه خلال المئة عام المقبلة. تكمن أهمية هذا التحول بمناعته كونه لا ينتج عن خوفٍ من الانهيار، بقدر ما هو قناعة بضرورة التخطيط القصير والمتوسط والبعيد المدى، يترافق مع قناعة بوجوب ربط الاقتصاد بمقوّمات حماية اجتماعية مستدامة. وهو ما تجلّى في مطلبٍ محقّ للناس يتمثّل برفض كامِل لتمنينهم بهذه الحماية المقدّمة من خلال شبكات السُلطة السياسية العنكبوتية. لقد حقّقت الثورة تأطيرًا شعبيًّا صادقًا لأي سياسات اقتصادية - اجتماعية مُقبلة.
٣- الثورة على المستوى الثقافي
التحدّي الثقافي الأبرز للثورة هو في تصويب مفاهيم المؤسِّسة في العقد الوطني اللبناني لناحية الميثاقية والدولة المدنية والديموقراطية التوافقية وما يتبعه من حُسن التمثيل وعدالته وفاعليّته، بالإضافة إلى المحاسبة والشفافية والحوكمة المنتجة السلميّة، فضلاً عن السياسات العامة والمواطنة وضمانات الطوائف وحقوق الأفراد. وفي هذا السياق، ثمّة خَفَرٌ يظلّل النخبة الثقافية اللبنانية (الإنتليجنسيا)، مع تفهّمي لحذرها وتروّيها وإصرارها على مواكبة تفكيكيّة بغية فَهم مرتكزات الثورة ومآلاتها. لكن، من المفيد بمكان الاعتراف بأن اندفاعة الناس الميدانيّة، بمفاجآتٍ عصيّةٍ على الاختزال الترقُّبي أو التشكيكي، تقتضي من الإنتليجنسيا، بسماتها القيادية البراغماتية لا الاستنقاعيّة التنظيريّة، تجاوز هذا الخَفر وملاقاة طموحات الناس بديناميّة رؤيوية. لقد أطلق الأكاديميّون والفنانون بمختلف تشعّباتهم شرارة هذه الملاقاة، وهذا يحتّم على الإنتليجنسيا اتخاذ مبادرة، أقلّه، لتشكيل ائتلافٍ يواكب الشارع المتوقّد الذكاء والواضح بأهداف ثورتِه.
بالارتكاز إلى هذه المستويات الثلاثة للثورة، الديونتولوجية والاقتصادية-الاجتماعية والثقافية، تظهر جليًا انحيازات الناس إلى أولويّة تحديدٍ جديد للعمل السياسي، وتمثيلهم وتمثُلهم في الحُكم، بالإضافة إلى سردِهم لمسارات الفساد والإفساد، وتأكيدهم على محاسبة المسؤولين عنها، وإسقاطهم سِمات الحرب الأهلية، فضلاً عن رصدهم لوسائل تخريب ثورتهم مع تفعيل ماكينات تعطيل هذه الوسائل، وإهمال كلّ تدخّلٍ استثماري إقليمي أو دولي.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك