بعدما كانت الثورة مطلبية بامتياز تحوّلت في زمن قياسي الى سياسية بامتياز، وكادت في ليلة ظلماء أن تتحوّل من ثورة حضارية الى ثورة دموية، لولا تدخّل القدر وليس السياسيين، لأنّ تصريحات هؤلاء لا تشير الى انّهم مستعدون لكبح جماح مناصريهم أو للاستسلام أو للتوافق، بل ما زالت حالة الإنكار الشديدة تٌسكر هؤلاء... وهم لا يقاومونها، بل يستسلمون لمفاعيلها ويراهنون على الخطة «ب» بعد بيان الحريري الرقم 2 ، كما على الوقت وعلى تعب الثوار.
في خضم الثورة وبعد عرض مدني لم تشُبه شائبة لأفواج الثورة يوم الاستقلال، تسابق المحلّلون على تقييمه، البعض اعتبره مدبّراً فيما اعتبره البعض الآخر مموّلاً من الخارج، بعدما تفاجأ الجميع بالعرض شكلاً ومضموناً، إن من حيث تنوّع الأفواج أو من حيث التنظيم للعرض الذي استمر طوال الفترة المسائية من ليلة الإستقلال.
في وقت راقبته اوساط «التيار الوطني الحر» واعتبرته عرضاً بورجوازياً يتنافى في الشكل مع شعار الثورة الجائعة، وفق تعبيرها، لكن أوساط حلفائه التي كانت تراقب المشهدية يومياً للثورة، راهنت على ثباتها وتقلّباتها وتغلغل الأحزاب اليسارية إليها لخرق المطالب الشعبية بشعارات سياسية مؤاتية لمواجهة «ثورة مطلبية شعبية»، فلجأت أولاً الى الاستقصاء عن هوية المحرّك قبل الانتقال الى الخطة «ب»، بعدما توجّست من القدرة التنظيمية للحراك من خلال مراقبتها للعرض المنظّم في عيد الإستقلال، وهي التي لطالما اكّدت في معظم تصريحاتها انّ القوة التنظيمية للأحزاب هي التي تجعلها فاعلة وثابتة.
فلجأ بحسب قادة الثورة الى الخطة «ب» بأقل من اسبوع، بدأت اولاً من خلال تحرّك موجّه نحو السفارة الاميركية التي وُجّهت اليها أصابع الاتهام الرئيسية في تمويل الحراك والعرض بشكل خاص، في وقت ألمحت أوساط «التيار» أيضاً الى معرفتها لعدد من أسماء الشخصيات الداعمة مادياً للثوار « لكنها تحتفظ بهذه الاسماء لحينه...».
الحريري: بيان رقم 2
في الموازاة، تصلّب الحريري في موقفه بعد جرعة الدعم التي تلقاها في عرض الاستقلال، بعدما كان قابلاً للتفاوض على حكومة تكنوسياسية وفق توصيف أوساط «التيار»، فيما وصّفت موقف الحريري «المتصلّب» بأنّه مصرّ على تشكيل الحكومة على قاعدة «أنا او لا احد» و «أنا ولا احد»، وأصرّ»التيار» وحلفاؤه على حكومة تكنوسياسية، ملوّحين بأسماء لشخصيات سنّية محتملة لترؤس الحكومة، بعضها قوبل بالرفض أو بالحرق من قِبل الحريري وبعضها الآخر من قِبل «حزب الله»، الذي لم ييأس من محاولة استدراج الحريري بشتى الطرق للقبول بترؤس الحكومة التكنوسياسية، لأنه ظلّ خياره الأوّل قبل إعطاء الضوء الأخضر للرئيس عون لبدء الاستشارات النيابية...إلاّ أنّ موقف الحريري فاجأهم مجدّداً فحسم موقفه في بيان رقم 2 رامياً الكرة في ملعب «حلفاء التسوية».
في المقلب الآخر، وتحديداً في الساحات المدنية للثورة، بدأت تتعالى الصيحات السياسية الغريبة على الحراك وفق شهادة بعض الثوار، ومن ابرزهم طلاب الجامعات الذين انكفأ بعضهم عن المشاركة ميدانياً بسبب الهتافات السياسية والطائفية التي برزت أخيراً، وفق تعبيرهم، وبعد توجسّهم من جرّ الثورة السلمية الى الثورة الحربية والسياسية، في وقت أصرّ البعض الآخر على الثبات في الميدان والمقاومة السلمية ... لكن مصادفة سقوط الضحيتين حسين شلهوب من بلدة طيرفلسيه وسناء الجندي من انصارية الجنوبية، على الاتوستراد الساحلي لبرجا بسبب الحواجز الحديدية التي قطعت الطرقات الرئيسية للأوتوستراد الساحلي، حمّست معارضي الثورة على التحرّك بعد لجمهم من قِبل زعمائهم، واتخذوا من الحادثة حجة طائفية وسياسية للتحرّك المضاد والمعادي للثورة، ولجأوا الى الاعتداء على الثوار ومحيط بيروت ووسطها، ولم يسلم الإعلاميون من سهامهم، فجاءت مشهدية اعتراضهم رافعين الاعلام الحزبية، معاكسة تماماً لمشهدية الثوار السلمية التي لم تخلع عنها أبداً الثوب الثلاثي اللبناني للعلم الاحمر والاخضر والابيض.
أوساط مقرّبة من الحزب تؤكّد انّه يرفض المسّ بالاستقرار الذي بالنسبة له هو خط احمر، انما لا يمكنه في المقابل كتم عواطف اهالي ومناصري الشهداء الذين سقطوا على الطرقات نتيجة تسكير الطرقات دون وجه حق ودون رقابة من القوى الأمنية المعنية والمولجة حماية مرور المواطنين اللبنانيين على كافة الاراضي اللبنانية.
وبالتالي، تؤكّد تلك الاوساط، ان للشارع قوته أيضاً التي لا يمكن لجمها حتى من قِبل زعمائها في بعض المحطات، وهو الأمر الذي تجلّى واضحاً من خلال تحرّك مناصري «حزب الله» وحركة «امل» في بيروت والمناطق المجاورة أمس الأول، وخصوصاً في صور والكولا.
وفق قراءة سياسية لأوساط تيار «المستقبل»، التي تأسف لوقوع ضحايا برجا، فهي ترى أنّ السلطة اتخذت للاسف الحادثة المؤلمة ذريعة للعب على الوتر الطائفي السنّي - الشيعي تحديداً كما لشدّ الخناق على رقبة الرئيس الحريري لإجباره على الاذعان والقبول بالشروط المطروحة لحكومة تكنو سياسية. فلجأوا الى حرب استباقية وسط أرضية قابلة لتحسين شروطهم، لكن الرئيس الحريري فاجأ الفريقين من خلال:
1 - اجتماع المجلس الشرعي الاعلى لدار الافتاء، والتأكيد انّ الحل هو بيد رئيس الجمهورية، من خلال استعجاله الدعوة الى الاستشارات وليس العكس، ودعوته الى ضرورة الالتزام بتطبيق الطائف.
2 - بيان صارم يردّ الحريري من خلاله على «التيار الوطني الحر» بقوله: «احد غيري ولست انا من سيترأس الحكومة المقبلة»، وذلك رداً على بيان «التيار» الذي وجّه اللوم المباشر له بالعرقلة وبحرق اسماء الرؤساء السنّة.
في الموازاة، يبقى لبنان أمام استحقاقين مفصليين وحكومة مواجهة محتملة بنسبة كبيرة، على ان تبدأ الاستشارات النيابية مطلع الأسبوع المقبل بعد جوجلة الأسماء المطروحة لرئاسة الحكومة ...أما الاستحقاق الأهم، فهو المالي الذي «يلطو» للحكومة الجسورة والتي تذاكى الحريري، وفق تعبير البعض، عندما انسحب منها رامياً الكرة من جديد في ملعب السلطة. فهل ينجح حلفاء الحريري «السابقين» في تأليفها وعدم الوقوع في مطباتها الداخلية والخارجية والمالية... بخاصة أنّ «ظلال الثورة» لهم بالمرصاد، فيما عيون الثوار ساهرة قد تأخذ قيلولة ظرفية ...لكنها لم تنم.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك