أضفت الانتفاضة الشعبية على المشهد اللبناني مواطنية مستجدة وديمقراطية تشاركية غير معهودة، عمودها الوحدة الوطنية وقاسمها المشترك التغيير ورفض إحتكار «الطائفيين الفاسدين» من كل الأطياف للقرار السياسي وللحلول الإقتصادية.
هذه الحلول المؤلمة التي بات من الصعب جداً على الأرجح تفاديها وتجنّبها، بعد هدر الوقت وتفويت الفرص تلو الفرص. ولا أخال أحداً من محبي هذا الوطن وعاشقي نموذجه الفريد قد توانى، على امتداد هذا الشهر ونيف، عن تبنّي الشعارات والمطالب المحقّة المرفوعة من قِبَل الثائرين، أو لم ينتفض لسماعه شهادات حيّة من الظلم والقهر والبؤس المستشري منذ عقود خلت ولم تزل، أو لم يتأثر ويُفجع بصورة أم ضاقت ذراعاها بفلذة كبدها يتألّم لرؤية أبيه يسبح في دمه وهو يتوسل ويستنجد...
كل هذه الصور والأحداث المتسارعة وتيرتها نفحت فيَّ الأمل وضاعفت العزيمة والإيمان بمستقبل واعدٍ، ولاسيما بعد تأكّدي من ولادة شعبٍ مضى قرن على تأسيس دولته بحدودها الجغرافية الحالية. وقد تمنيت لو أنّ تلك الأوقات المجيدة تدوم إلى ما لا نهاية، وأن لا تنطفئ شمعتا التحرّر والتوحّد.
إلّا أنني وبحكم إختصاصي وإطلاعي على حقيقة الأرقام والأوضاع، كما وعلمي بنسبية الأمور في المسائل المالية، لا يسعني إلّا أن أكون قلقاً ومتوجساً مما سوف تؤول إليه الأمور في المستقبل القريب؛ وبالتالي تيقني من أنّه بات من الضروري إبتكار حلول سريعة وإقتراحات عملية تساعد في تثبيت وتثمين إنجازات الثورة وحماية المكتسبات.
من هذا المنطلق، كان لا بدّ من التعويل على أنقى الصور التي أفرزها الحراك وأهم مكتسباته على حدٍ سواء، وهي التلاقي الحاصل بين مختلف شرائح المجتمع الوطني أياً كانت الانتماءات، وبغض النظر عن الإمكانيات والمستويات والتحصيل العلمي والطبقات الاجتماعية. بحيث نتج منه مشروع عقد إجتماعي جديد صاغه فرقاؤه من حيث لا يدرون.
إلّا أنّ ركائز هذا العقد لم تزل ركيكة ومعرّضة للطعن والتنكيل والإنهيار إن لم يصر إلى تثبيتها وتحصينها من خلال تدابير عملية ناجعة وسريعة. والحاجة ماسة اليوم لمواجهة التحدّيات الإجتماعية أولاً وبالتالي، تأمين مساعدات وحلول لحماية الشرائح الأكثر تأثراً بالأزمة المعيشية والإقتصادية الراهنة، أو بتلك التي ستنتج بفعل التدهور الإقتصادي/المالي المُحتمل والمخاطر المُحدقة المترتبة على المدى المنظور.
مع الإشارة، إلى أنّ لا أحد يمكنه الإدّعاء بأنّ بلوغ هذه النقطة بات محسوماً، كما أنّ لا أحد يمكنه إستبعاد حصوله. مع العلم والتأكيد بـأنّ لبنان بات قاب قوسين أو أدنى من تصنيفه كدولة هشة (fragile state) نظراً لتوفرّ وإكتمال جميع معايير ذلك التصنيف، ومن أهمها عجز الدولة عن إتخاذ قرارات جماعية وحسن تطبيقها، كما وإفتقادها لسبل التواصل مع مواطنيها وتقديم الحدّ الأدنى من الخدمات الإجتماعية.
وقد يترتب عن هذا التصنيف إضافةً إلى حالتي عدم الملاءة والتخلّف عن الدفع (default) تدخّل دولي لتأمين السيولة اللازمة والإستقرار؛ ما من شأنه أن يضع البلاد تحت وصاية صندوق النقد الدولي مع وصفته الجاهزة بطلب من الدول المانحة أو المقرضة وذلك، بهدف إدارة الأزمة وفرض إصلاحات وشروط صعبة ومؤلمة، ليس أقلها إعادة هيكلة الدين العام (bail in/hair cut) وزيادة الضرائب غير المباشرة التنازلي- ومنها الضريبة على القيمة المضافة والرسوم الجمركية والإستهلاكية - ورفع الدعم على المحروقات والبنزين والكهرباء، إلى حين التثبيت المالي (stabilization) الذي لا يتحقق قبل سنتين على الأقل.
لذلك، أمام حالة الإنكار والمراوحة غير المسؤولة لدى السلطة، وفي ظلّ دولة عاجزة عن تأمين شبكات الأمان والحماية، بات من الملحّ، بصورة استباقية لما قد يواجهه المجتمع من فقرٍ وبطالة وهجرة وعدم إستقرار، إبتكار الحلول ووضعها موضع التنفيذ في أسرع وقت ممكن منعاً لتفكّك المجتمع وإنحلال الدولة. وأول الغيث تثمين التعاضد الإجتماعي الذي تجلّى من خلال الحراك. كيف؟
قد يكون من المجدي للغاية المرجوة، وإلى حين إستعادة الدولة لدورها الراعي، إستحداث منصّة رقمية (Digital Platform) يتمّ من خلالها وصل الأشخاص طالبي المساعدة بالأشخاص الراغبين تأمين تلك المساعدة والعون. وهم كثر في لبنان والإغتراب.
وعليه، يكون نطاق هذه المنصة واسعاً، بحيث يتمّ تأمين المساعدة الطبية والمدرسية والإجتماعية والإنسانية للمعوزين؛ ناهيك عن تطوير وتحفيز القطاعات المنتجة والواعدة وتأمين فرص عمل للبنانيين وفتح أفق جديدة من خلال الإبداع والإبتكار والتواصل الرقمي.
ويتحقق ذلك، من خلال نظام تكنولوجيا قواعد البيانات المتسلسلة (Blockchain) وحوكمة فعّالة وشفافة ورشيدة من قِبل جمعية منفعة عامة لا تبغي الربح، خاضعة أعمالها لتدقيق ورقابة متواصلين.
أما الأولوية الثانية من حيث التدابير الواجب إعتمادها، فتكمن في إعادة توزيع عادل للخسائر المتأتية من النظام الريعي القائم منذ ما يناهز الثلاثة عقود، كما وسوء ادارة الاقتصاد والمالية العامة، ناهيك عن الفساد والاستيلاء على الموارد الوطنية والمال العام المهدور والمنهوب.
من هذا المنطلق، يقتضي أولاً بأول تأمين الإستقلالية اللازمة للقضاء، للشروع في التحرّي والتحقيقات مع كل من يشملهم قانون الإثراء غير المشروع أو لم يشملهم، إنما يكونون على علاقة عمل مشبوهة وتواطؤ مع أي من الوزارات والإدارات والصناديق القائم عليها موظف عام مشتبه فيه وملاحق؛ لكي يصار فوراً إلى حجز أموال المشكو ضده والأشخاص المترابطين معه، المنقولة وغير المنقولة، في الداخل والخارج، حجزاً احتياطياً. ويبقى هذا الحجز مستمراً ومنتجاً مفاعيله القانونية حتى صدور قرار برفعه أو بتحويله إلى حجز تنفيذي بعد صدور الحكم النهائي.
وفي حال إسترجاع تلك الأموال يتمّ رفدها في صندوق سيادي (sovereign fund) مهمته الإنفاق الإجتماعي والإستثمارات المنتجة في القطاعات الواعدة؛ ولاسيما تأمين شبكة حماية إجتماعية من خلال البطاقة الصحية لجميع المواطنين والتعليم المجاني والحد الأدنى التأميني للبطالة القسرية وغيرها من التدابير التي تحدّ من الفقر وعدم العدالة، وتحفزّ لنمو حقيقي ومستدام.
وبما أنّ واردات تلك التدابير مرتبطة لا محال بإجراءات قانونية معقّدة وطويلة قد يتأخّر إنجازها، فمن المجدي رفد الصندوق بإيرادات أخرى تؤمّن العدالة وحسن التوزيع، ومنها ما يُسمّى بالضرائب المخصصة (earmarked taxes) أي التي تكون حصيلتها مخصّصة لغرض معيّن (أي أهداف الصندوق الاجتماعية والتنموية).
ومن سلّة الضرائب الإستثنائية التي يُمكن فرضها عملاً بما تقدّم، ضريبة خاصة (تسمّى تعاضدية) مُستحدثة على بعض القطاعات ذات الربحية العالية أو الأثر الضار كالمصارف وشركات التأمين والوساطة والمراهنات وألعاب الميسر والكسارات والإسمنت، وتلك التي تستثمر مرافق أو أملاكاً عامة أو ثروة طبيعية أو تتمتع بإحتكارات أو أوضاعاً تفضيلية.
على ان يتمّ درس تلك الحالات كلٌ على حدة، كما وتقدير وقع الأثر الإقتصادي مسبقاً بعناية ودقّة. هذا، ومن المجدي أيضاً، لتأمين تلك الموارد، فتح المجال لتسوية ضريبية خاصة بالنسبة لإيرادات الأسهم والسندات المالية الأجنبية وفوائد حسابات الإدخار التي تؤول إلى المقيمين في لبنان والغير مصرّح عنها لغاية تاريخه بخلاف القانون وذلك، بمعزل عن أي تسوية أخرى مخالفة للمبادئ الدستورية.
على أن تكون تلك التسوية مشروطة بأحد الخيارين: إما إعادة جميع الرساميل إلى لبنان والإمتناع عن تحويلها من جديد إلى الخارج لمدة خمس سنوات وتوظيفها في إستثمارات وقطاعات منتجة؛ وإما تسديد، على سبيل التسوية، نسبة ضرائب (5%) على كامل الذمم المالية الخارجية (رأس المال) ولمرة واحدة بالنسبة للمرحلة السابقة. على أن يبادر المستفيدون من هذه التسوية بعدها إلى تنفيذ موجباتهم الضريبية عملاً بأحكام المواد 77 وما يليها من قانون ضريبة الدخل.
كما يقتضي أخيراً تعديل نظام الحوافز الضريبية الإمتيازية والخاصة، التي لم تعد توفي بغرضها، لا بل أصبحت أداة للتهرّب والمزاحمة غير المشروعة.
يُضاف إلى ما تقدّم، أولوية ثالثة تكمن في تعديل المادة 14 من القانون رقم 28/67، بحيث يصار إلى رفع ضمانة الودائع في المصارف العاملة في لبنان من مبلغ 5 ملايين ليرة لبنانية، المعمول به راهناً، إلى 150 مليون ليرة لبنانية، مع إتخاذ ما هو مناسب من إجراءات لتأمين هذه التغطية عملاً بالقوانين المرعية؛ وذلك، حفاظاً على مصالح صغار المودعين والمتقاعدين والمقعدين وسواهم من الشرائح الهشة.
وأخيراً كأولوية رابعة، لا بدّ من إنهاء اللغط الحاصل والضياع المتخبّط بالقطاع المصرفي، والذي يُعرّض مصالح الناس للخطر والضرر بسبب تقاعس المصرف المركزي عن القيام بمسؤولياته وإعلان حالة تقييد التحويلات (capital control) بصورة صريحة ورسمية، مع تنظيم التعامل والأخذ في الإعتبار الحالات الخاصة المحقة؛ كون قانون النقد والتسليف يمنحه صلاحية المحافظة على سلامة النقد اللبناني والاستقرار الاقتصادي وسلامة اوضاع النظام المصرفي (المادة 70). وبما أنّ ظروف تلك الحالات متوفرّة جميعها، يحق له أن يضع التنظيمات العامة الضرورية لتأمين حسن علاقة المصارف بمودعيها وعملائها (المادة 174).
وعليه، يقتضي حثّه على القيام بذلك، إلّا إذا كان من المرجح أن تطول حالة التقييد لتتعارض مع مقدمة الدستور (الفقرة و) التي تكفل النظام الاقتصادي الحر والمبادرة الفردية والملكية الخاصة. إذ يُستحسن عندها إستصدار قانون يفرض القيود والشروط ويفوّض أمر تنظيمها إلى المصرف المركزي مع مراعاة الإتفاقيات والمعاهدات الدولية ومصالح لبنان الإقتصادية.
مع الأمل بإعادة بناء الثقة في الدولة وفي ما بينها وبين مواطنيها، كما والإبتعاد عن الشعبويات والشعارات الفارغة والرنانة، لا يسعني في الحصيلة إلّا ان أستذكر هنا قول الفيلسوف الصيني Sun Tzu لجهة «أنّ أفضل الوسائل لعدم بلوغ الأهداف هو أن لا يكون لنا أهداف».
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك