تتعاظم المخاوف الإقتصادية والمعيشية يوماً بعد آخر. منسوب القلق ممّا ستحمله الأيام القادمة، من إقفالٍ للمؤسسات وتشريدٍ للعمال وارتفاعٍ في أسعار السلع والخدمات، في ازدياد مطّرد. قدرة المصارف على الإستمرار في ظل تحوّلها إلى ماكينات سحب محدودة، ورفعها الفوائد مرّة جديدة إلى حدود خيالية، مشكوك فيها. الإحتياطي الإلزامي من العملات الأجنبية في "المركزي"، الذي طالما اعتبر صمّام أمان لتعديل ميزان المدفوعات وتثبيت سعر الصرف، في تناقص دراماتيكي. مؤشراتٌ سلبية، أمّنت إنقشاع الرؤية في القطاع الخاص. لكن، ماذا عن القطاع العام، هل هو في منأى عمّا يحدث؟
موظّفو القطاع العام الذين ناموا على حرير سلسلة الرتب والرواتب في نهاية العام 2017، استيقظوا بعد أقل من سنتين على أشواك أزمة إقتصادية ونقدية، امتصّت من أجورهم أكثر من الزيادة المحقّقة. أولى نتائج الأزمة في مرحلتها الأولى كانت خسارة القدرة الشرائية للرواتب بالليرة اللبنانية حوالى 33.3 في المئة، إذا اعتبرنا السعر السوقي لشراء الدولار أصبح 2000 ليرة لبنانية.
مقاربة بسيطة تُظهر أن نسبة الزيادة التي تقاضاها موظّفو ومتقاعدو القطاع العام على رواتبهم في العام 2018 بلغت 18.3 في المئة، بالمقارنة مع العام 2017.
وإذا احتسبنا إنخفاض القيمة الشرائية لليرة بحدود 33 في المئة، تكون رواتب الموظفين وتعويضاتهم قد خسرت بالاضافة الى الزيادة الناتجة عن سلسلة الرتب والرواتب، نحو 15 في المئة من قيمتها الأساسية.
يبلغ مجمل الإنفاق على القطاع العام حوالى 9 آلاف مليار ليرة، يتوزّع على الشكل التالي: 62 في المئة على الرواتب والأجور الحالية، أو ما يقدّر بـ6000 مليار ليرة، و24.2 في المئة على معاشات التقاعد، و 8.8 في المئة على مخصصات نهاية الخدمة. فيما سابقاً كان مجموع ما يتقاضاه الموظفون الحاليون والمتقاعدون يقدر بـ 6 مليارات دولار، أصبح اليوم 4.5 مليارات.
التراجع في القدرة الشرائية للرواتب والأجور يبقى أرحم من توقفها. ففي اليومين الماضيين سرت الكثير من الشائعات التي تتحدث عن أن "موظفي القطاع العام لن يتقاضوا رواتبهم نهاية هذا الشهر" وذلك بالإستناد إلى ان "الحساب الخاص رقم 36 في مصرف لبنان الذي يتم فيه إيداع رواتب موظفي القطاع العام ما زال فارغاً لغاية تاريخ 20/11/2019".
عضو الهيئة الإدارية لرابطة موظفي الإدارة العامة طارق برازي، ينفي هذا الخبر جملةً وتفصيلاً، فـ"عدا عن أن هذا الحساب يُملأ في كبسة زر واحدة، فإن الرواتب والأجور مؤمّنة تلقائياً لشهرَي تشرين الثاني وكانون الأول. أما بخصوص كانون الثاني من العام المقبل، فيمكن صرف الإعتماد المخصص للرواتب على أساس القاعدة الإثني عشرية في حال لم تتشكل الحكومة".
وعما إذا كان هناك تخوف من عجز الدولة نتيجة تراجع إيراداتها، يلفت برازي الى ان الإيرادات تُظهر تراجعاً ملموساً، نتيجة إقفال الإدارات وتراجع الأعمال في القطاع الخاص بشكل عام"، إلا انه يلفت إلى أن "المؤسسات الأساسية التي تتموّل منها الدولة ما زالت تعمل وتقوم بواجبها، خصوصاً لجهة الإيرادات من الضريبة على القيمة المضافة وبعض القطاعات مثل الإتصالات والجمارك وغيرها".استمرار الإستدانة
الباحث في "الدولية للمعلومات" محمد شمس الدين يقول: "طالما الدولة قادرة على الإستدانة من مصرف لبنان أو المصارف التجارية فإن الرواتب ستؤمّن في موعدها". مضيفاً أن "الاوضاع المالية والاقتصادية صعبة، وكل المؤشرات الاقتصادية سلبية وتُظهر تراجعاً عن العام الماضي، والتي كانت بدورها متراجعة عن العام الذي سبق، ولكن البلد ليس على شفير الإفلاس والانهيار، اذاً لا تزال أمامنا فرصة الإصلاح والإنقاذ. وفي أشهر قليلة يمكن تحويل المسار السلبي الانحداري الى إيجابي". حلّ العجز
تأمين السيولة الكافية للدولة، أقلّه لتلبية النفقات الجارية، في ظل تراجع مواردها وتسجيل موازنتها عجوزات خيالية تُقدّر بنحو 8 آلاف مليار ليرة أو 7 في المئة من الناتج المحلّي يتطلّب، بحسب الخبير الإقتصادي جاد شعبان، حلاً من اثنين:
- إعادة جدوَلة الدين العام المقوّم بالليرة اللبنانية والدولار.
- أو، رفع الضرائب على الإيداعات الكبيرة.
الإجراء الإنقاذي يشترط أولاً وجود حكومة قادرة، تستطيع أن تدخل بمفاوضات جدية وحازمة مع القطاع المصرفي. وبحسب شعبان فإن "المصارف التجارية التي استفادت بشكل كبير خلال الأعوام الماضية، وحقّقت أرباحاً سنوية لا تقلّ عن 3 مليارات دولار، عليها تحمّل المسؤولية اليوم، ليس فقط رأفة بالإقتصاد والقطاعات الإنتاجية، إنما حفاظاً على استمراريتها. وهي لن تخسر في عملية الجدوَلة إلا هامشاً قليلاً من الربح. أما تحجّجها بالخسائر المحقّقة، ونقص السيولة، فيرى شعبان أن "تعنّت المصارف ورفضها التضحية في هذه الظروف كمن يُطلق النار على قدمه، فالتوقف عن تمويل الاقتصاد يوقف الدورة الاقتصادية ويرتدّ سلبياً على العمل المصرفي".
تغييب الإصلاحات الجوهرية، واستمرار العجز في الموازنة يُجبر الدولة على طلب التمويل من مصرف لبنان لتأمين حاجاتها عبر سِلَف الخزينة. إلا أن هذه السِلَف أصبحت مرفوضة من البرلمان الذي قرّر وضْع حدّ للصرف العشوائي غير المقونن. وليس باستطاعة الحكومة طلب السِلَف بعد انقضاء هذا العام، إذا لم تدخل أي استثناءات جديدة".طباعة العملة
أحد الحلول التي قد تلجأ اليها الدول لتأمين السيولة هو طباعة العملة المحلية، إلا أن نتائج هذه العملية قد تكون كارثية على الإقتصاد، نظراً لما تسبّبه من تضخّم وخسائر في القوة الشرائية. في الحالة اللبنانية، "مخاطر هذه العملية لن تكون تضخمية، بسبب الركود الإقتصادي. بل ستنعكس على تخفيض تصنيف مصرف لبنان نتيجة الديون التي سيحملها في موازنته"، يقول شعبان.
كل الفرضيات تراهن على دور مسؤول للمصارف، وتراهن على توفّر السيولة. لكن ماذا إذا كانت السيولة غير متوفّرة بالقدر الكافي، والمصارف عاجزة عن التدخّل الإنقاذي، فما هي الحلول البديلة؟
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك