تستمرّ «ثورة 17 تشرين» في هدْم جدران الخوف ومُراكَمَةِ «النقاطِ» في مواجهةٍ لا يمكن التكهّن بمآلاتها في ضوء صعوبة تَصَوُّر أن «تُسَلِّم» القوى الرئيسية في الائتلاف الحاكم بأن تطيحَ الانتفاضةُ الشعبيةُ بالتركيبة السياسية الحالية التي تتشابك توازناتها كـ «خيوط العنكبوت» مع شبكة النفوذ الإقليمي والإيراني تحديداً التي بدأت تهتزّ بـ«لدغاتِ» غضبٍ في كل من لبنان والعراق وصولاً الى قلْب الدار.
ولم يكن عابراً في رأي أوساط مطلعة أن تنجحَ الثورةُ في 34 يوماً بتسجيل انتصاراتٍ «نظيفة» كرّتْ سبحتُها، وتنطلق من أجندة ذات صلة بمكافحة الفساد والنهوض بالواقع المالي - الاقتصادي عبر اختصاصيين واستعادة القضاء هيْبته والمؤسسات دورها، وهي المطالب التي سيرتّب بلوغُها تلقائياً نتائجَ سياسية ذات امتداداتٍ إقليمية، ما يعكس دقّة المرحلة المفصلية التي يعيشها لبنان.
وتوقفتْ هذه الأوساط عند أن الثورة التي تتكئ على زخْمها الذي لم يتراجع وعلى «مبدئيتها» التي جعلتْها تتفلّت من الحساباتِ التي غالباً ما كبّلت اللاعبين السياسيين و«روّضت» المشهد الداخلي، تمكّنت في 48 ساعة من تحقيق فوزيْن «ثمينيْن»: الأوّل انتخاب «مرشّح الثورة» ملحم خلف نقيباً لمحامي بيروت (الأحد)، والثاني أمس بفرْضها منْع انعقاد البرلمان في جلستيْن متتاليتين، واحدة كانت مقرَّرة لانتخاب هيئة مكتب المجلس واللجان النيابية وثانية تشريعية (أبرز بنودها قانون العفو العام)، وذلك بقوة «درعٍ بشري» طبع «ثلاثاء الغضب» الذي حاصّر مقرّ مجلس النواب.
ويُضاف هذان «الانتصاران» إلى «النقطة الأغلى» التي حققتْها الثورة بإسقاط الحكومة عبر استقالة رئيسها سعد الحريري التي دخلتْ أمس أسبوعها الرابع، ثم الإطاحة بمحاولة تسمية الوزير السابق محمد الصفدي لرئاسة الوزراء، والأهمّ تَحوُّلها «قوةً مُقَرِرَة» في مجمل الملف الحكومي تكليفاً وتأليفاً عبر «خطٍ أحمر» رسمتْه حول أي تشكيلة خارج «بروفايل» حكومة الاختصاصيين المستقلين، وهو الشرط الذي جعل السلطة في حال إرباكٍ وارتباكٍ في ضوء شبه استحالة استيلاد حلّ وسط بين «لاءيْن» كبيرتيْن: الأولى من الانتفاضة للحكومة التكنو - سياسية التي يصرّ عليها فريق رئيس الجمهورية ميشال عون والثنائي الشيعي «حزب الله» ورئيس البرلمان نبيه بري، والثاني من هذا التحالف الذي يرفض الخضوع لـ «haircut» سياسية عبر حكومةٍ من مستقلّين لن تتم قراءتها خارج «مقياس» الصراع في المنطقة والتدافع الخشن مع إيران و«حزب الله».
وإذ بدا واضحاً أن الانتفاضة تستفيد من أن الحريري يفاوض في الملف الحكومي بشروطها عبر إصراره على ترؤس حكومة اختصاصيين مستقلين، فإنّ مشهدية يوم أمس شكّلت مؤشراً إضافياً إلى أن الثورة باتت رقماً صعباً في المعادلة الداخلية لا يمكن القفز فوقه، سواء حاول بعض أطراف السلطة «ركوب موجته» من ضمن تصفية الحسابات بين الائتلاف الحاكم أو خَطَّطوا لضرْبه وهو الأمر الذي سيكون مكْلفاً جداً وقد تُعرف بداياته ولكن يصعب ضبْط نهاياته.
ولاحظتْ الأوساط المطلعة أن وهجَ «الغضبة» الشعبية على الجلسة البرلمانية التي كانت أرجئت الأسبوع الماضي عشية موعد انعقادها، سرعان ما كان له «مفعول الدومينو» على الكتل البرلمانية التي تراجعتْ غالبيتها تباعاً حتى عن محاولة حضور جلسة الانتخاب ما أدى إلى عدم توافر النصاب القانوني من أساسه، علماً أن 5 نواب فقط (من كتل فريق عون و«حزب الله» وبري) كانوا نجحوا في التسلل من خلف ظهر «الطوق البشري» حول مقرّ البرلمان في وسط بيروت والوصول، إما بعدما باتوا ليلتهم بداخله أو محيطه أو «ركبوا الفجر».
وفيما حاول نائب «حزب الله» علي عمار العبور على دراجة نارية، سعى آخرون إلى أن يخترقوا عنوةً «طوق الثوار» الذين حاصروا منذ ساعات الصباح الأولى كل مداخل البرلمان، وذلك بمواكب أمنية لم يتوانَ أحدها عن إطلاق النار عبر الزجاج الأمامي لإحدى السيارات (من داخل السيارة) لترويع المنتفضين الذين أصيب أحدهم دهْساً، قبل أن يتم التداول بفيديو قيل إنه لبري يغادر بحماية موكب عسكري مؤلّل.
وفي حين انطبع مشهدُ الثورة في يومها الـ 34 بهتافاتِ الفرح بإرجاء الجلسة قبيل موعدها (وإعلان إبقاء اللجان الحالية قائمة) وببعض الاحتكاكات مع القوى الأمنية التي أقامت «زناراً» من أسلاك شائكة ومكعبات اسمنت «خرقتْه» قرقعة القرع على الطناجر وعلى الحائط الحديد في ساحة رياض الصلح والذي أسمع الثوار عبره صوت احتجاجهم، فإن الوقائع السياسية كانت تشي باستمرار التصلّب على جبهتيْن:
* تحالف عون - «حزب الله» الذي يتمسّك بالحكومة التكنو - سياسية. وإذ بدا واضحاً أن الحزب ما زال يفضّل أن يترأس الحريري مثل هذه الحكومة أو أن تتمّ تسمية مَن يوافق عليه، نُقل عن مصادر قصر بعبدا أن زعيم «تيار المستقبل»، الذي انفجرتْ العلاقة بينه وبين فريق عون على خلفية ملابسات عدم نجاح «خيار الصفدي»، يبقى أحد الأسماء الممكنة وأن رئيس الجمهورية بدأ يبحث عن مرشح بديل عنه بحال أصرّ على حكومة التكنوقراط.
* الحريري الذي نُقل عن أوساطه أن مطلبه الأساسي إجراء الاستشارات النيابية المُلزمة لتكليف رئيس الحكومة العتيدة فوراً وأن هذا هو المخرج الوحيد الذي سيؤدي لتحريك الوضع الحكومي والسياسي، داعياً لتفادي المزيد من التأخير لأن الأمور تتجه مالياً واقتصادياً نحو ظروف أصعب وأصعب، وذلك بعدما كانت تقارير أشارت إلى ان رئيس الحكومة المستقيل لا يمانع تسمية القاضي نواف سلام لرئاسة حكومة من مستقلين.
في غضون ذلك، كان عون الذي تلقى أمس برقيات تهنئة بعيد الاستقلال (يصادف الجمعة) من خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وولي العهد الأمير محمد بن سلمان، يبلغ المنسق الخاص للأمم المتحدة في لبنان يان كوبيتش أنه «يواصل جهوده واتصالاته لتشكيل حكومة يتوافر لها الغطاء السياسي اللازم وتضم ممثلين لمختلف المكونات السياسية ووزراء تكنوقراط من ذوي الاختصاص والكفاءة والسمعة الطيبة»، إضافة الى ممثلين عن «الحراك الشعبي»، موضحاً أنه «سيحدد موعداً للاستشارات النيابية فور انتهاء المشاورات مع القيادات السياسية المعنية بتشكيل الحكومة والتي تهدف الى تسهيل مهمة الرئيس المكلف منعا لحصول فراغ حكومي».
ولم تحرف هذه التطورات الأنظار عن معاودة المصارف فتْح أبوابها أمس بعد 8 أيام من الإقفال المتتالي، حيث رُصدت طوابير اصطفت أمام البنوك «المحروسة» من نحو 1600 عنصر أمني، من دون أن تُسجل إشكالات مع المودعين على خلفية القيود المشدّدة المفروضة على سحب الدولار (ألف دولار في الأسبوع) والتحويلات إلى الخارج (للضرورة القصوى).
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك