تحت وطأة الثورة الشعبية التي صوّبت جامّ غضبها على الفساد والسرقة اللذين ينخران الدولة منذ عقود، محمّلين من تعاقبوا على الحكم منذ انتهاء الحرب، مسؤولية ايصال البلاد الى ما هي عليه اليوم من اهتراء ومديونية وعجز، تكاد ترميها في غضون اسابيع ان لم يكن ايام معدودة، في المحظور اقتصاديا وماليا... وسط هذه الاجواء الضاغطة، تحرّكت فجأة يد القضاء فاتحة ملفات أثارت طوال الفترة السابقة، شبهات وشكوكا وتساؤلات. البداية كانت مع ادعاء النائب العام لدى محكمة الاستئناف في جبل لبنان القاضية غادة عون، على رئيس الحكومة السابق نجيب ميقاتي، وأفراد من عائلته ومصرف يمتلك أسهما فيه. ونسبت إليهم ارتكاب جرم "الإثراء غير المشروع، عبر الحصول على قروض سكنية مدعومة من مصرف لبنان".
وفي وقت ازدادت الانتفاضة الشعبية زخما واتخذت أشكالا جديدة، منتقلة من قطع الطرق الى الاعتصام امام الادارات والمرافق العامة التي باتت "عنوانا" للفشل والصفقات والهدر، رغم وعود رئيس الجمهورية العماد ميشال عون ورئيس مجلس النواب نبيه بري والرئيس سعد الحريري واطراف السلطة كلّهم، بتفعيل عملية مكافحة الفساد وتعزيزها بالقوانين الضرورية في الفترة المقبلة، "ضرب" القضاء "ضربة" جديدة. فقد قرّر النائب العام المالي القاضي علي إبراهيم، الاستماع إلى إفادة رئيس الحكومة ووزير المالية الأسبق فؤاد السنيورة، حول موضوع صرف مبلغ 11 مليار دولار عندما كان رئيساً للحكومة بين عامي 2006 و2008، ولم يُعرف مصيرها حتى اللحظة. وقد استمع ابراهيم الى السنيورة امس في قصر عدل بيروت في جلسة استجواب دامت 4 ساعات.
في الموازاة، ادعى القاضي ابراهيم على المدير العام للجمارك بدري ضاهر في جرم هدر المال العام. بعد ان كان الصحافي الإستقصائي رياض قبيسي عبر "الجديد" ضمن برنامج "يوميات ثورة" تحدث عن أدلة وتسجيلات صوتية ضد ضاهر.
لكن هذه الحركة كلّها تبدو وفق ما تقول مصادر سياسية مراقبة لـ"المركزية"، أشبه بعملية مدروسة هدفها ليس محاسبة الفاسدين فعلياً، بقدر ما هو امتصاص نقمة الثوار وتقديم أمر ما "ملموس" يُرضيهم ويُظهر لهم ان ثمة قرارا جديا بتغيير منطق "التفلّت" الذي كان سائدا طوال الفترة السابقة، علّ ذلك يسرّع في تطويق رقعة تحركاتهم على الارض. فالعدالة المتأخرة ليست عدالة، وهذا ما أكده شخصيا رئيس الجمهورية في اكثر من مناسبة، ما يضع ما يجري اليوم من "استفاقة" على قضايا نامت في الادراج لسنوات، في اطار "خبط عشواء" استلحاقي "شكلي"، لا اكثر. فالجديّة هنا، تقتضي ورشة متكاملة تتعاون فيها السلطات الثلاث لرفع الحصانة عمن تدور حولهم الشبهات، ولاقرار قوانين محاربة الفساد، ولتفعيل هيئة محاكمة الرؤساء والوزراء التي امامها تتم محاكمة اي رئيس للحكومة أكان حاليا ام سابقا.. فأين هذه الخطوات كلّها؟ ولماذا لم يتم اتخاذها بعد وقد مر من عمر العهد 3 سنوات؟
والجدير ذكره هو ان الغرض من فتح الملفات، مكشوف لدى "الثوار"، ويدركونه جيدا، وهم فقدوا الثقة بكل الوعود التي يغدقها عليهم المسؤولون.
وما يزيدهم قناعة بأن لا جدية في المحاسبة، هو ان ما يفعله اهل الحكم اليوم لا يخلو من الاستنسابية، اذ تبدو الملاحقة حتى اللحظة، لا تشمل سوى وزارات او ادارات محددة توالى على تسلّمها اطراف من لون سياسي معين. وربما لهذه الغاية، قرر محامون اليوم التقدم بإخبار الى النيابة العامة التمييزية ضد الوزير السابق والنائب الحالي جبران باسيل بجرم تبديد الاموال العامة، تبييض الاموال، والإثراء غير المشروع وأي جرم آخر يظهره التحقيق.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك