الأموال المنهوبة واستعادتها. من حقّ شباب الثورة وشاباتها وناسها وأسرها، أن يهتفوا به، ويضعونه بندًا رئيسًا في لائحة الطموحات الكبيرة والمشروعة. يتحول واجبًا متى علمنا، أن أكثر من 42 مليار دولار أميركي تتكبدها الدول النامية سنويًا بحسب الوكالات الدولية المعنية. تأكل من مخصصات التنمية، والصحة، والتعليم، وشبكات الأمان الاجتماعي، وبناء المرافق العامة الحيوية.
النظام لا يستعيد الأموال
نصرّ من جديد، على أن تحقيق هدف استعادة الأموال المنهوبة أيضًا، لا يمكن عزله عن تغيير النظام السياسي في لبنان أو إسقاطه. والدليل بسيط وعيّن. كل الدول التي شكّل الفساد فيها نهجًا منظمًا، لم ينكشف صراحة ولا حُدّ منه، إلاّ بعد إطاحة النظم السياسية. في المحيط الأقرب نظام زين العابدين بن علي في تونس. وحسني مبارك في مصر. وعلي عبدالله صالح في اليمن. ومعمّر القذافي في ليبيا. وفي نيجيريا وليبيريا والفليبين وغيرها الكثير. في سوريا تمت دعوشة الثورة منجاة لنظام بشّار الأسد من السقوط. ونسمع الآن، كيف بدأت مواقع الفساد والثروات تحترب من الداخل أبناء عمومة وخؤولة ومقربين من لدن النظام وحواشيه. والمعركة لم تنته بعد. في العراق حيث أكبر عملية نهب منظمة في التاريخ زمن رئيس الوزراء السابق نور الدين المالكي، لم تنكشف إلاّ بعد إزاحة المالكي عن رئاسة الحكومة. هناك اتهامات خيالية لهذا الأخير بأنه استولى على نحو 400 مليار دولار أميركي فترة حكومته. قال ذلك رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي ومجلس النواب ومسؤولون. في العراق ثورة شعبية غير مسبوقة منذ عصر الديكتاتور صدّام حسين. ونعلم مدى البذخ الذي مارسه. وعدد القصور التابعة له ولعائلته.
ولنا أن نعتقد في لبنان، أن قضية استعادة الأموال المنهوبة، وكشفها أولًا، أشد صعوبة عن مثيلاتها في دول أخرى. هناك ارتبط الفساد بالحلقة الضيقة للديكتاتور و"القائد الملهم" وبعض الزبانية. في لبنان دائرة الفساد أوسع بكثير. البلد لا يحكم بالديكتاتور والرجل الواحد. بيد أن تحالف السلطة ورأس المال في نظام أوليغارشي مكين مغطّى بالطائفة، هو سمة النظام العامة. وهو واسع ومتشعب حتى كاد يشكل ثقافة لبنانية خالصة. ولأنه بهذا الإتساع تمكّن من تأسيس بيئة حاضنة ومحمية في دوائر الدولة والقضاء والإعلام والنقابات وغيرها. ومن أسف، وُجد من النُخب الثقافية والعلمية من يدعمه بالمباشر، أو بالتملق أو التنظير له كناية واستعارة. لذلك، ترفع هذه الثورة غير المسبوقة منذ دولة لبنان الكبير 1920، ودولة الاستقلال 1943، تغيير النظام السياسي أو إسقاطه. لأنه السبيل الوحيد لاستعادة الأموال المنهوبة. علمًا أن كل مطالب الثورة وشعاراتها الأخرى، الاقتصادية والمالية والاجتماعية والمعيشية المباشرة، على تماس مباشر بهيكل النظام السياسي. الموازنة العامة قرار سياسي. توزيع نفقاتها، وتركيب إيراداتها وقوانين الضرائب والتكليف الضريبي، كلها قرارت سياسية وخيارات أيديولوجية وطبقية، لها علاقة مباشرة بالنموذج الاقتصادي، ومكونات الناتج المحلي، وتوزيع الثروة والنمو والتنمية. الأمر نفسه في توزيع أعباء الخروج من الأزمة، وتفادي الانهيار تحت غائلة العجز والدين العام. الفساد المالي هو الإبن الشرعي للفساد السياسي. فساد نظام ليس نزوة فردية من مكوناته. لا يوجد مكان في العالم خلوٌ من فساد. لكن توجد قبل ذلك أجهزة رقابة ومحاسبة مهنية وتدقيق وقضاء يحاسب. ومجلس نواب لا يشرع وثيقة نفقات خارج الدستور والقوانين وبالعجز المتمادي والدين المتلفت من أي قيود. في الأنظمة التوتاليتارية ينهب الطغاة والبطانة. الباقون يتوجسون الديكتاتور. وغالبًا ما يفتعل الأخير حرصًا على نفاذ القوانين ليغطي ما ينهبه. وضعنا مع استعادة الأموال المنهوبة أشد تعقيدًا. فغلالة النظام الديموقراطي البرلماني، وحرية الاقتصاد، والمعتقد، والتعبير، والإعلام، واستقلال القضاء، وفصل السلطات وغيرها، كلها استخدمت خلافًا للدستور، لسدن منظومة الفساد. سقطت الغلالة الآن. بما ذلك أُرجوفة الطائفة التي تحمي زعيمها السياسي. وسقطت حدود الكانتونات السياسية والطائفية بين المناطق. "كلن يعني كلن". الشعار ليس ترنيمة. السخفاء فهموه بالشخصي. والخبثاء المرعوبون منه، فهموه يتوعدون ويزمجرون لإرهاب شهامى وشرفاء، حريصين على العيش بكرامة ووطن حرّ.
مسار معقّد
الكشف عن الأموال المنهوبة واستعادتها في لبنان والخارج يحتاج إلى دولة. إلى مسار معقدّ وصلب لبناء لوائح الاتهام القضائية وتحويلها إلى مراجع محلية مصرفية ومالية، وإلى أخرى دولية مهتمة بتبييض الأموال. من سيركّب لوائح الإتهام ومتابعتها من الدولة اللبنانية ومنظومة النظام السياسي؟ وهل النظام السياسي الحالي وأحزاب السلطة جديرة بذلك أصلًا؟ كل المراجع الدولية المعنية، والحكومات والأجهزة القضائية فيها تعرف حكاية الفساد وأربابه في لبنان. وتعلم الوعود التي قطعتها العهود السياسية والحكومات لوقف الفساد ومحاربته. ولم نعثر على فاسد واحد بعد! وتعلم أن لبنان هو الوحيد بين بلدان العالم على شفا الانهيار المالي لا يستطيع الحصول على قروض ميسرة طويلة الأجل في أمسّ الحاجة إليها، لأنه يرفض مجرد إصلاحات مالية وإدارية وفي قواعد الإفصاح والشفافية.
فصل جديد من الإفك والتحايل بدأ منذ فترة يتعلق برفع السرية المصرفية عن حساباته في لبنان. السرية المصرفية ترفع لمصلحة جهة معينة. وفي حالات محددة بالقوانين لاسيما المتعلقة بتبييض الأموال وأموال الإرهاب. تسقط السرية وتجمدّ الحسابات موقتًا إلى حين القرار النهائي بالإفراج عنها أو مصادرتها تبعًا لنتائج التحقيق في الهيئة الخاصة في مصرف لبنان. لكن الأمر يحتاج قبل ذلك إلى اتهام أو إخطار السلطات المعنية بشبهة ما. هذا غير موجود. من يستطيع بناء ملف لشخصية من المنظومة السياسية؟ ومن ثمّ، فرفع السرية يفترض أن يكون في لبنان والخارج عن الأصول والحيازات والشراكة في مؤسسات وملكيات عقارية وأسهم وصناديق مصرفية وحسابات رقمية مكتومة. وأن يشمل رفع السرية أصول العائلة بلا استثناء.
الحكومة البريطانية نشرت في 2016 مضمون كتاب للخبيرة الأمنية سارة تشايس عن الفساد وفيه أن الأخير "بات اليوم ممارسة منظّمة، وهو نتاج عمل شبكات معقّدة تشبه الجريمة المنظّمة. ويتعيّن على الحكومات دراسة تلك النشاطات وتداعياتها، بالطريقة نفسها التي تدرس فيها المنظمات الإجرامية أو الإرهابية العابرة الحدود".
نعاني اليوم خطر تحويل أموال إلى الخارج. سنطلب إلى أركان الدولة بلا استثناء ما يأتي: هناك معلومات عن تحويلات بالملايين إلى الخارح في آب وأيلول الماضيين وقبل 17 تشرين الأول المنصرم وبعده، كون الأقسام الخارجية في المصارف لم تتوقف عن العمل. هل يمكن الطلب إلى الوزراء والنواب والمسؤولين في القطاع العام إلى أي دائرة انتموا، رفع السرية عن حساباتهم وحسابات أصولهم وذويهم لمصلحة الدولة اللبنانية، لمعرفة أصحاب تلك التحويلات؟
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك