المسألة لم تعد حلولاً اقتصادية لأزمة تخنق كل بيت لبناني. البنود الواردة في الورقة الاقتصادية لرئيس الحكومة سعد الحريري لا بأس بها، وتشكّل مدخلاً معقولاً لإنقاذ البلد من أزمته الاقتصادية والمالية. لكنّ السؤال الأهم: لماذا لم تجترح هذه الحلول خلال السنوات الثلاث الماضية طالما أننا استطعنا وضعها في أقل من ثلاثة أيام؟ بل أكثر، لماذا لم نعتمدها قبل أسبوع فيما كان البحث جارياً عن ضرائب جديدة تفرض على المواطنين؟
لا شك في أنّ الجواب يحمل إدانة واضحة للطبقة السياسية الحاكمة بجميع مكوّناتها وأطيافها، وإثباتاً إضافياً على الفساد الحاصل.
ومعه لم يعد مقنعاً للحشود الغاضبة التي ملأت الساحات والشوارع ان يجري طَي صفحة «ثورة الواتساب» من دون الذهاب الى أصل المشكلة.
فالورقة الاقتصادية هي إدانة واضحة للطبقة السياسية الحاكمة، وبالتالي، لا يمكن أن يكون «حاميها حراميها». حتى لو خضعت هذه الطبقة، على مَضض، لخفض رؤوس أبنائها أمام «عاصفة» الناس، فإنها ستعود غداً لابتكار أساليب جديدة لفسادها، وستعود للتعامل بفوقية وغطرسة مع الناس.
وبَدا أنّ هذه الطبقة السياسية الحاكمة لم تستوعب حجم الغضب الشعبي الذي انفجر في الساحات والشوارع بعد أن انكسر حاجز الخوف، بدليل أنّ كل طرف فيها حاول، ولا يزال، تحميل الأطراف الأخرى مسؤولية الأزمة. وهو مؤشّر سلبي الى أنّ «حليمة ستعود لعادتها القديمة» بعد خروج الناس من الشارع.
لا يبدو انّ هذه الطبقة السياسية الحاكمة اقتنعت بأنّ أسلوب المحاصصة على كل المسويات لم يعد وسيلة مُمكنة لتحقيق النفوذ السياسي والاهداف الشخصية والثراء المالي، فليس من السهولة بمكان أن يقتنع أهل السلطة وأفراد هذه الطبقة السياسية بالتنازل عن مصالحهم السياسية وثرواتهم، والتي غَنموها من خلال سياسة صراع الطوائف. فلقد شَيّدوا مواقع لهم داخل النظام اللبناني، من خلال امتهان سياسة التخويف من الآخر. فهؤلاء بَنوا أمجادهم على أنقاض المواجهات المذهبية والطائفية، وثبّتوا سلطتهم من ضمن إطار سمّوه زوراً تركيبة حزبية، فيما هو في الحقيقة إطاراً كاذباً لامتداد سلطة إقطاعية.
كل هذه الصورة تتركّز في خلفية الذين نزلوا الى الشارع وتظاهروا، ومعهم يبقى السؤال الأهم: ما هو الحل الواقعي للخروج من هذه الأزمة؟
لا جدال في أنّ التحركات انفجرت من دون أي دفع خارجي لها، بدليل أنّ هذه الجموع تفتقد وجود قيادة تديرها.
وبات واضحاً أيضاً أنّ مطلب إسقاط الحكومة هو الهدف الذي يمكن أن يؤدي الى خروج المتظاهرين من الشارع. لكنّ أطراف السلطة في لبنان عبّرت وأعلنت رفضها للأمر، كلّ لأسبابه الخاصة، إلّا انّ العامل الجامع بينها هو الخشية من عدم تمكّنها من تأليف حكومة ثانية، وبالتالي انزلاق البلد في اتجاه الفوضى. والفوضى أبشع من الحرب. ولذلك أيضاً نصحت كلّ من واشنطن وباريس الرئيس سعد الحريري بعدم التسرّع وإعلان استقالة الحكومة.
أضف الى ذلك أنّ الاميركيين غارقون في أزمات المنطقة الهائلة، إضافة الى أزمتهم السياسية الداخلية. وانّ هذه الحكومة، التي جاءت كنتيجة للتسوية الرئاسية والتي حازت موافقة أميركية وإيرانية ما سَمح بولادتها، من الصعب استبدالها بحكومة أخرى بسبب الصراع العنيف الدائِر بين واشنطن وطهران، والذي سيمتدّ على الأرجح حتى موعد الانتخابات الرئاسية الاميركية بعد حوالى السنة، فيما لبنان ليس أمامه سوى أشهر معدودة قبل أن يجفّ مخزون مصرف لبنان من العملات الصعبة. وهنا الخشية من السقوط في الفوضى.
لكن، وخلال الساعات الماضية، وجدت واشنطن ما يوجِب التنبّه له على الساحة اللبنانية، والمقصود به هنا التظاهرات التي شملت الساحات الشيعية للمرة الاولى، بعيداً عن غطاء الثنائية الحزبية الشيعية.
هي بدأت تراقب ذلك بتمعّن، في انتظار أن تنضج الرؤيا أكثر.
في الواقع، ستستمر التظاهرات والاعتصامات طلباً لثمن سياسي ترفض الطبقة الحاكمة التنازل عنه.
بل انّ بعض «مجانين» السلطة يفكرون في شارع مُضاد، شرط إشراك «حزب الله» في الخطوة. لكنّ هذه المقاربة خطرة، لأنّ الانتفاضة الشعبية شملت كل الساحات، وأيّ حركة خاطئة قد تدفع لانفجار برميل البارود. بدليل أنّ الذين دعوا لضربة قوة تؤدي الى إرهاب المتظاهرين، والذي بوشر بتنفيذها مساء يوم الجمعة الماضي وقبل ظهر يوم السبت، أدّت إلى نتائج عكسية والى ازدياد أعداد المتظاهرين. القوة لا تنفع هنا، الاقناع وحده هو السبيل لحل الازمة من خلال تقديم السلطة أثماناً سياسية.
وطالما أنّ أطراف السلطة ترفض رفضاً قاطعاً استقالة الحكومة، فإنّ البعض طرح إحداث تعديلات وزارية تطيح وزراء يشكّلون حساسية فائقة للشارع، وبمثابة جائزة ترضية. ولكن هل هذا يرضي المتظاهرين؟ على الأرجح الأمور لم تنضج بعد.
لذلك، قد يتحدث الأمين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصرالله للمرة الثانية خلال اليومين المقبلين، على أساس أنّ ما تحقق من خلال الورقة الاقتصادية هو انتصار كبير و»تَعرية» كاملة لفساد أهل السلطة، لكنّ الذهاب الى أبعد من ذلك أو الى نهاية الطريق مسألة غير ممكنة ومحفوفة بالمخاطر.
في الواقع السيد نصرالله لا يريد تعديل توازنات الحكومة، والتي ولدت استناداً الى نتائج الانتخابات النيابية. هو يقرأ في السياسة أيضاً وسط صراعات وتحولات وتحديات كثيرة هائلة في المنطقة. أمّا باقي أطراف السلطة فيقرأون من زاوية حسابات المكاسب الشخصية الحالية والمستقبلية.
أمّا الجيش اللبناني، الذي حاز تقدير كل الساحات واحترامها، والذي عانى كثيراً ولا يزال من مؤامرات السلطة، فسيستمر ساعياً لحماية الاستقرار الامني من خلال سياسة ضمان حماية المواقع الرسمية والحكومية ومنع أيّ استهداف لها، وفي الوقت نفسه حماية حرية المتظاهرين و»مطالبهم المحقّة» ومنع قمع تحركاتهم وسلامتهم.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك