لا تشبه قصّة ميشال عون أيّ قصّة أخرى. عاش الرجل ما لم يعشه أيّ سياسيّ آخر. رجل الأوسمة الكثيرة التي حازها في حياته العسكريّة، و"رعد" كما كان يلقّب حين كان ضابطاً قريباً من بشير الجميّل، وقائد الجيش، ثمّ رئيس الحكومة العسكريّة، مع تولّي وزارتَي الدفاع والإعلام، ثمّ المنفي الى مرسيليا في 29 آب 1991، وبعدها الى باريس بصفة لاجئ سياسي...
محطّات كثيرة قد نختصرها بسطور، إلا أنّ الرجل، من دون أدنى شكّ، طبع باسمه وشخصيّته الفريدة ومواقفه وجمهوره الكبير تاريخ لبنان الحديث. وحين عاد الى لبنان في 7 أيّار 2005 فعل ما لم يكن يتوقّعه كثيرون، حتى أولئك المؤمنين بقضيّته والذين ناضلوا من أجلها حتى السجن والقمع وجرّ أجسادهم الطريّة على الطرقات.
ميشال عون شخصيّة جامعة لتناقضاتٍ كثيرة. يملك من المناصرين بقدر ما يملك من الخصومٍ. ما من سياسي لبناني يثير الجدل حوله كما يفعل. ما من سياسي يلتصق به "شعبه" حتى بالكنية مثله، فباتت صفة المنتمي الى تيّاره أو المؤيّد له تُختصر بكلمة "عوني".
أثبت عون، في مرحلتَي ما قبل العام 2005 وما بعده، بأنّه أكبر من أن يتمّ استيعابه أو تجاوزه. ما من استحقاقٍ مرّ على لبنان منذ ذلك الحين إلا وكان عون لاعباً أساسيّاً فيه، و، غالباً، معطّلاً له. واجه التحالف الرباعي فصنع "تسونامي" جرف خصومه خصوصاً في جبل لبنان. أوصل "عصيّ" الى البرلمان، وخاض انتخابات فرعيّة واجه فيها الرئيس أمين الجميّل برَجل مغمور لا يعرفه ناخبوه إذا التقوا به في الشارع، وفاز. عرقل تأليف أكثر من حكومة حتى نال ما يريد من حصّة وحقائب بلغت العشر في حكومة واحدة، وهذا أمر نادر في تاريخ الحكومات اللبنانيّة.
وإذا كان بعض "العونيّين" يصرّون على تأليه قائدهم، فيرسمون في أذهانهم هالةً حول رأسه وعرشاً يجلس عليه، فإنّ الرجل الذي ولد في عائلة متواضعة من حارة حريك ودخل شابّاً الى المؤسسة العسكريّة حيث ترقّى حتى بلغ قيادتها هو أبعد ما يكون، في حياته الخاصّة وطباعه الشخصيّة، عن تلك الصورة. يذكر كثيرون، على الأرجح، ما قاله يوماً المبعوث العربي الأخضر الإبراهيمي، بعد أن حلّ ضيفاً على مائدة العماد ميشال عون في قصر بعبدا: "لقد كان أفقر طعام، لكنّه كان مع أشرف رجل". لم يتغيّر طعام عون بين بعبدا والرابية. لعلّ "الجنرال" يأكل الطعام "الأفقر" بين جيرانه من أصحاب الملايين في الرابية. زد على ذلك أنّ الكثير من مكوّنات الطعام تصل الى المطبخ من مساحة قريبة جدّاً، من حديقة المنزل...
يملك ميشال عون حديقة صغيرة قرب مسكنه، ولكنّها قد تكون الأشهر في الجمهوريّة اللبنانيّة. تربطه علاقة قديمة مع الأرض. يتذكّر، في الكثير من جلساته الخاصّة، حين كانت حارة حريك بساتين خضراء، قبل أن يجتاحها الباطون فتتغيّر ملامحها وتفقد ما كان لها من هويّة. يسكنه الحنين الى تلك الأيّام بقدر ما ترافقه، حتى اليوم، رائحة زهر الليمون في الحارة.
إلا أنّ عون ينقل السياسة في الكثير من الأحيان من بين جدران المنزل الى رحاب الحديقة التي يسير فيها أحياناً منفرداً ومفكّراً، أو برفقة أحد أعضاء تكتله حيث يعقدان خلوة، قبيل اتخاذ قرارٍ ما.
أما منتوجات الحديقة الزراعيّة فتتنوّع بين الكوسا، القرع، البندورة، الباذنجان، الحمضيّات، اللوبياء، البقدونس والنعناع... "الفتوش" إذاً من حواضر الحديقة، وكذلك التبولة والسلطات والكثير من الأطباق، يأكلها بعد أن يضيف إليها الملح الزائد.
هذا هو ميشال عون. يمكنك أن تحبّه كثيراً وأن تخاصمه بشدّة، وفي الحالتين هو رجل لا يتكرّر. إنّه عون الضابط وقائد الجيش ورئيس الحكومة والمنفي والزعيم والنائب ورئيس التكتّل المسيحي الأكبر في تاريخ لبنان. أما بعد أيّام، فقد نكون مع عون آخر، عون الرئيس. فهل يحقّق الرجل ما انتظره طويلاً "الشعب العظيم"؟
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك