ثمّة أمر تغيّر في بكركي وفي خطاب البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي. ليست المسألة فورة غضب على أداء أطراف داخلية تضع العصي في دواليب عملية انتخاب رئيس للجمهورية فقط، بل تجاوزت ذلك إلى المَسّ بصلاحيات الرئيس العتيد عبر تحميله سلّة من الشروط والالتزامات والتنازلات، وهذا ما يُعتبر خطاً أحمر لبكركي لا يجوز القبول به تحت أيّ عنوان.
بعد حركة الرئيس سعد الحريري المكوكيّة التي تبلورت في مرونته حيال انتخاب رئيس تكتل «التغيير والإصلاح» النائب ميشال عون رئيساً للجمهورية، إنكشف «مستور» المعرقلين للإنتخابات الرئاسية، من خلال وضع شرط تحميل عون سلّة من التفاهمات التي ستحوّله أسيراً لها، الأمر الذي أثار غضب جميع المسيحيين لما فيها من اعتداءٍ على الدستور ومصادرة فاضحة لصلاحيات الرئاسة الأولى.
أمام هذا الواقع الصعب، شهدت بكركي يوم الأحد الماضي نقطة تحوّل بالغة الأهمية من خلال عظة البطريرك الراعي الذي رفض مسألة السلّة ووصف الرئيس الذي يقبل بها بـ«بلا كرامة».
هذا التحوّل يُعتبر انتفاضة في توجّه بكركي في عهد الراعي الذي سار حتى اليوم في نهج وفاقي يراعي فيه كلّ الأطراف ولا يُغضب أحداً، بل يكتفي بتحديد المبادئ العامة ولا يدخل في التفاصيل، لكن ماذا جرى حتى انتفض الراعي على نفسه وصعّد في موقفه على هذا النحو:
أولاً، استشعرت بكركي أنّ الكيان اللبناني يواجه خطراً وتهديداً كبيراً إذا استمر الشغور الرئاسي، ما جعل البطريرك الراعي مقتنعاً بضرورة قرع ناقوس الخطر وأخذ زمام المبادرة. ومن الطبيعي أن تطلّ بكركي وترفع صوتها وتقول كلمتها في وجه الثنائي الشيعي الذي يمارس «التقيّة» في مواقفه السياسية وخصوصاً أنّ «حزب الله» يعلن تأييده لإنتخاب عون رئيساً، لكنه لم يبادر إلى أيّ مساعدة في هذا المجال، بحيث فضحت حركة الحريري حقيقة موقف «الحزب» الذي يفضّل استمرارَ الشغور وبالتالي ممارسة لعبة التعطيل وتكريس الفراغ، في حين أنّ لبنان يقع على خط الزلازل في منطقة مليئة بالصراعات والانقسامات التي من شأنها أن تقوّض استقرار البلد.
لذلك، لا يسع بكركي أن تبقى متفرّجة لا مبالية إزاء استمرار الثنائي الشيعي في لعبة التعطيل، ما يفقد المسيحيين وخصوصاً الموارنة موقعهم بل سيجعلهم من الضحايا عاجلاً أم آجلاً.
التنازل لسلّة شروط من هنا وسلّة تنازلات من هناك ستفقد رئاسة الجمهورية مكانتها وكرامتها وخصوصيّتها، وهذا ما لن تقبل به بكركي، واضعة الخط الأحمر أمام هذا الانحدار المخيف، ناسفة فكرة «السلّة» من أساسها.
ثانياً، تحوّلت لهجة البطريرك الراعي من الدفاع إلى الهجوم لأنّ المرحلة لم تعد تسمح بالكلام العموميّ وتكرار المواقف التي لا تقدّم ولا تؤخّر حتى إنّ بيان المطارنة بات باهتاً ولم يعد يسمّي الأشياءَ باسمائها، وقد تذمّر الكثير من المسيحيين من اللون الرمادي الذي طغى عليه، لذلك من المتوقع أن يطرأ تغييرٌ على بيان المطارنة نفسه ليلحق بموقف الراعي المتشدّد والحاسم، متخلّياً عن الفتور، ليتناغم مع المفهوم الإنجيلي بالكامل الداعي إلى أن يكون كلامنا نعم نعم ولا لا.
ثالثاً، اشتكى كثر من الموارنة منذ بدلية عهد البطريرك الراعي من غياب دور بكركي الفاعل في السياسة المسيحية اللبنانية، لكنّ البعض لا يعلم أنّ نهج الفاتيكان بعد تولّي البابا فرنسيس مسؤولياته في الكرسي الرسولي، لا يحبّذ الدخول في متاهات السياسية الضيّقة، وبالتالي يُعمّم على جميع الكرادلة المنتشرين في كلّ أصقاع الأرض، النهجَ الوفاقي المسالم، خصوصاً في ما يتعلق بمسيحيي الشرق، ليبقوا متجانسين مع محيطهم الإسلامي فلا يدخلون متاهات الصراع بين السُنّة والشيعة، فيستمرون على الحياد ويحافظون على حضورهم المميّز على المستوى الوطني العام.
لكنّ الكنيسة المارونيّة لا يمكنها أن تبقى صامتة عندما يتعرض المسيحيون والمواقع المارونية في الدولة اللبنانية للإقصاء والتهميش انطلاقاً من اعتبارات وطنيّة لا طائفية، كما يحصل اليوم على صعيد مقام رئاسة الجمهورية، وبالتالي لا ينسى أحدٌ أنّ تاريخ تلك الكنيسة هو تاريخ كنيسة مجاهدة ومقاومة ومناضلة، وما ملحمة وادي القديسين في قنوبين سوى إحدى الصور التاريخيّة للكوارث الرهيبة التي حلّت بلبنان طوال عقود من الزمن واستمرت الكنيسة.
رابعاً، وعت بكركي أنّ ما بعد «تفاهم معراب» ليس كما قبله، لأنّ الخلافات التي كانت سائدة بين الأقطاب الموارنة أضعفت دور المسيحيين عموماً وبكركي خصوصاً، بل جعلتها في موقع الدفاع. أما الآن وبعد المصالحة بين «التيار الوطني الحر» و«القوات اللبنانية» وترشيح رئيس حزب «القوات» سمير جعجع للعماد عون لرئاسة الجمهورية، جعل بكركي في موقع الهجوم لأن لا أحد يستطيع القول بعد «تفاهم معراب»، فليتفق المسيحيون على رئيس ونحن نمشي به. لقد اتفق أكبر حزبين مسيحيين في لبنان على ترشيح عون، فما هي حجّة الآخرين؟
وبعدما كانت بكركي منشغلة في إقامة المصالحة، وهي ساهمت بذلك فعلاً، بات عليها الانصراف إلى دفع عجلة الانتخابات الرئاسيّة بالقول والفعل ونزع المعوقات من أمامها.
مخطئ من يقلل شأن موقف البطريرك الراعي الأخير، ومخطئ من يستخف به وبقدرته على تغيير الواقع والتأثير في مجرى الأحداث. فما تعدّه بكركي ليس معداً لظرف راهن ولن تكون انتفاضتها هذه المرة مرحليّة ولا ظرفيّة بل أهدافها بعيدة المدى ومفاعيلها تتجاوز اللحظة السياسية الراهنة، إلى ما يُخرج لبنان من أزمته الحالية، واضعة النقاط على الحروف، محدِّدة مكامن الخلل والخطر، وراسمة «خريطة طريق» لثورة لن تهدأ حتى انتخاب رئيسٍ للجمهورية.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك