تبدو المشاهد الأميركية غريبة فعلاً. أين القوة العظمى الوحيدة التي ولدت من ركام الاتحاد السوفياتي؟ أين قدرتها على إدارة شؤون العالم أو المشاركة في إدارتها؟ أين مسؤولياتها عن الأمن والسلام الدوليين؟ وأين الخطوط الحمر التي تتحدث عنها؟ وأين صدقيتها في التعامل مع الأزمات وفي إدارة تحالفاتها وصداقاتها ومصالحها الطويلة الأمد؟
في السنوات الأخيرة، شعر المتابع للمشاهد الأميركية المتلاحقة بصعوبة في الفهم. لنفترض أن أميركا السابقة تغيرت وأعادت النظر في أولوياتها. ولنفترض أن همومها الآسيوية تغلبت على ما عداها خصوصاً لجهة احتواء الصعود الصيني. وأن أهمية النفط تراجعت في التأثير في قراراتها. وأنها يئست من الشرق الأوسط ونزاعاته القديمة والجديدة. لكن لماذا يغيب الخيط المنطقي الذي يفسر سياساتها هنا وهناك؟
التقى الرئيس محمود عباس وزير الخارجية الأميركي جون كيري أكثر من خمسين مرة. النتيجة معروفة ولا تحتاج إلى تعليق. سجلت لقاءات كيري ونظيره الروسي سيرغي لافروف رقماً قياسياً والنتيجة معروفة ولا تحتاج إلى تعليق. تنهال الطائرات الروسية على شرق حلب بأعتى أسلحتها ويؤنب لافروف كيري لأنه لم يستعجل فرز المعارضة السورية المسلحة. يعتمد فلاديمير بوتين سياسة ثأر سوفياتية صارخة ويكتفي باراك أوباما الذي يستعد للمغادرة بالقول إن روسيا قد تغرق في المستنقع السوري.
مشاهد أميركية غريبة. ارتباك في الخارج وارتباك في الداخل. لم يخض أوباما معركة جدية للدفاع عن الفيتو الذي وضعه، ما سهل للكونغرس تمرير قانون "العدالة لرعاة الإرهاب" وبأكثرية ساحقة. غريب أن يلجأ أعضاء المجلسين إلى توظيف التعاطف مع ضحايا هجمات 11 أيلول في موسم انتخابي لتمرير قانون ابتزازي يستهدف السعودية. والدليل أن عشرات الأعضاء في الكونغرس سارعوا إلى التحدث، قبل أن يجف حبر القانون عن ضرورة التعديل والتشذيب لتفادي "العواقب الوخيمة" التي يمكن أن تترتب على أميركا نفسها بفعل إسقاط الحصانة السيادية للدول.
قانون غريب يكاد يحقق ما رمى إليه أسامة بن لادن حين اختار جنسيات الفريق المنفذ للهجمات، بهدف إحداث شرخ في العلاقات الأميركية - السعودية. وهو قانون يتجاهل أنّ التحقيقات لم تعثر على أي دليل على مسؤولية رسمية سعودية في تلك الهجمات. تجاهل المشرعون الأميركيون أن السعودية هي الهدف الأول لإرهاب "القاعدة" و"داعش".
وتجاهلوا أهمية الثقل السعودي في التصدّي لهذا الفكر المتطرّف وأهمية المعلومات التي تتشاركها السعودية مع أميركا وغيرها لإحباط مخططات المتشدّدين.
واضحٌ أنّ العلاقات الأميركية - السعودية تتجه الى اجتياز امتحان صعب. كشفت سياسة أوباما في السنوات القليلة الماضية حجم التباعد في القراءات بين واشنطن والرياض، في ما يتعلق بملفات عدة بينها السلوك الإيراني في المنطقة والأزمة السورية والهجوم الإيراني المتواصل على مستوى الإقليم وكان اليمن مسرح آخر تجلياته. وأدارت السعودية بحكمة هذه الاختلافات، مدركة أن العلاقة مع أميركا لطالما كانت من شروط التوازن والاستقرار في الشرق الأوسط. لكن قانون الكونغرس بدا مستفزاً ومقلقاً ومفتقراً إلى الحدّ الأدنى من التبريرات.
إننا في بداية امتحان جدّي للعلاقات الأميركية - السعودية. تملك السعودية في هذا الامتحان ثقلاً اقتصادياً وديبلوماسياً وأمنياً وعربياً وإسلامياً. ردود الفعل الدولية على القانون كشفت سريعاً طابعه الاستفزازي والمتهور. أغلب الظن أن القانون لن يحقق ما رمى إليه من أصروا على تمريره، وأن خوف الولايات المتحدة نفسها من عواقبه سيملي فرض تعديلات وضوابط. الأكيد أن المعركة ستكون معقدة وطويلة وتحتاج إلى أسلحة الصبر والقدرة على العمل من داخل القاموس الأميركي نفسه.
ذكّرني المشهد الغريب الذي ارتكبه الكونغرس بقرار غريب حاولت عبثاً فهمه وهو قرار حل الجيش العراقي بعد الغزو. جمعتني المصادفة ذات يوم بعسكري أميركي متقاعد يسافر بحثاً عن الشمس. أقام هذا الضابط في المنطقة الخضراء ما يزيد على عقد كامل وتولى "مهمات حساسة" مع مختلف الذين تعاقبوا على قيادة القوات الأميركية في العراق.
سألته عن قرار حل الجيش العراقي فأجاب "لو كانت هناك مؤامرة، لكان يفترض أن أكون جزءاً منها بحكم موقعي. لم تخطط أميركا لإعطاء العراق لإيران أو لإطلاق نزاع سني - شيعي. لم تدرك الإدارة الأميركية تعقيدات المجتمع العراقي والجوار فكان ما كان. الأمر مجرّد سوء تقدير أدى إلى قرار خاطئ".
استغربت كلام الرجل وحين قلت له "إنّ المتابع يجد صعوبة في فهم السياسات الأميركية ومشاهدها ومفاجآتها"، رد أن "الأميركيين يجدون أحياناً مثل هذه الصعوبة". ومنذ ذلك اليوم، يلازمني شعور بأنّ أميركا قوّة عظمى ومشكلة عظمى.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك