في الفارق الشاسع بين احتفاء الغرب بالرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز بعد وفاته كـ «رجل سلام» ووسمه من قبل شطر راجح من الرأي العام العربي بمجرم الحرب ومؤسس الاستيطان، يكمن الفارق بين تقييمن وقراءتين للتاريخ ولدور السياسي وعلاقته بمجتمعه ودولته وشعبه.
أفرط المشاركون في جنازة بيريز بإضفاء صفات القداسة غير المستحقة عليه، وذكروا باطلاعه بمهمات حساسة ساهمت في جعل إسرائيل ما هي عليه اليوم، من كل النواحي. دولة استيطانية عنصرية لا تتورع عن قتل المدنيين وتدمير المدن والقرى، من جهة، وقوة اقتصادية وتكنولوجية متطورة على المستوى العالمي، تعمل مؤسساتها السياسية والقانونية بكفاءة لا نظير لها في محيطها، من الجهة المقابلة.
التناقض الظاهر بين السمتين ساهم بيريز في ترسيخه عبر العمل في تشييد اسرائيل على مدى عقود من الزمن. ثمة مكتبة كبيرة عن أسباب هذا التناقض وأسسه الايديولوجية ودور المهاجرين اليهود الأوروبيين الأوائل في اعتماد نظرة عنصرية حيال الفلسطينيين والعرب عموماً مستمدة من أجواء العقائد القومية الأوروبية في القرن التاسع عشر، بالتوازي مع نزعة دولتية، اشتراكية، داخل مجتمع اليشوف ثم في تجربة الكيبوتزات الخ... العنصرية نحو الخارج والآخرين (بمن فيهم «مواطنو» إسرائيل العرب) والديموقراطية في الداخل اليهودي (مع تباينات بين الطوائف والأعراق واختلاف في الأساطير المؤسسة)، هذان اقنوما اسرائيل كما ساهم ديفيد بن غوريون الأب الروحي لبيريز في تظهيرهما.
أفضى هذا التناقض الى ظهور أيقونات واشباه قديسين في التاريخ الاسرائيلي مثل بن غوريون وغولدا مائير واسحق رابين الذين لا يحفظ لهم العرب الا أسوأ الذكر كقتلة ومجرمي حرب ومشاركين في نكبة الشعب الفلسطيني والهزائم العربية.
يتعين هنا الانتقال الى الجانب الآخر من الصورة. خدم بيريز والآخرون إسرائيل كقضية ودولة ومشروع على النحو الذي يخدم فيه «الخادم العام» بلده. مستوى فساد أي سياسي ضمن هذا السياق يندرج في الفساد المرصود في الدول ذات آليات الحكم الواضحة وتوازن السلطات وانفصالها في ظل وجود رقابة قانونية وإعلامية نشطة. بكلمات ثانية، لم تطغ ايديولوجية المشروع الصهيوني على ضرورات بقاء الدولة الإسرائيلية. اللحظات التي بدا فيها أن ثمة خطر باختلال توازن الدولة لمصلحة الايديولوجيا، كان يجري التدخل لتعديل الاختلال ولو بالقوة على ما جرى في حادثة الباخرة «ألتالينا» المحملة بالسلاح والتي حاولت منظمة «ارغون» عبرها الاستمرار كميليشيا بعد قيام الجيش الاسرائيلي «الرسمي». غني عن البيان ان الوضع تغير كثيراً منذ نهاية السبعينات وبروز قوى دينية وأشد عنصرية من المؤسسين.
نفتح قوساً هنا للتشديد على أن لا مديح ولا هجاء في الكلمات أعلاه بل محاولة للمقارنة بين الوضع الاسرائيلي والحال العربية التي تنظر فيها السلطات الى الدولة كغنيمة شخصية والى المواطنين كمواضيع للسيطرة والنهب والإذلال المنظم. وليست بجديدة الشكوى من نقص فاضح في مكونات الدولة العربية وعجزها عن الارتقاء الى التعريف الحديث لـ «الدولة». لكن ربما من المفيد التذكير، بالاستعانة بجنازة بيريز وسيرته، أن أسباب القصور العربي لا تنحصر فقط في العنف والاستلاب اللذين تعرضت لهما المجتمعات العربية في المرحلة الاستعمارية وليس فقط في ارتباط الانظمة بمصالح الغرب ودفاع هذا عنها، بل تتعلق ايضاً بآليات السلطة الداخلية وممارستها وتعريفاتها في مجتمعاتنا العربية.
ولا شك في أن شيمون بيريز ارتكب واعياً جرائم لا تمحى ضد الفلسطينيين واللبنانيين (في مجزرة قانا عام 1996) وغيرهم، لكن بالقدر ذاته من انعدام الشك ينبغي القول انه كان يقوم بما يعتقده مصلحة شعبه ودولته. وهو ما يعاكس ما يفعله رجال السلطة العرب من جرائم ضد شعوبهم لخدمة انفسهم في المقام الأول.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك