«السياسيون قوم، عندما يرون ضوءاً في نهاية النفق يخرجون ويشترون المزيد من الأنفاق؟
جون كوينتون
تعرض «الفضائية اللبنانية» كل مساء، قبيل نشرة الاخبار، صوراً ومشاهد من لبنان الطبيعي والتاريخي. في الطبيعة، ثمة تنوع أكثر غنى من تركيا(1)، التي تكبره مساحة 76 مرة. في التاريخ، يكاد يكون التنوع في حجم الامبراطوريات. فأين المشكلة اذاً؟ انها في الحاضر وفي المستقبل. الحاضر تكرار لتشوهات الماضي والنفوذ الخارجي، والمستقبل مرهون بمتغيرات الآخرين وليس بثبات الأهلين: من مسألة التوطين، الى تصاعد الصراع العربي الايراني، واستطرادا الى تزايد الحروب الاهلية في أفريقيا.
في الحاصل الصورة مقلقة: تأليف الحكومة ينتظر مناخاً وقراراً خارجياً، ومأساة في حجم مأساة أبيدجان، تركناها للجيش الفرنسي الذي نحتفل كل سنة بذكرى جلائه عنا. وقد خصصنا لذلك لوحة مكتوبة بالخط النسخي، الى جانب اللوحات الأخرى، التي تروي حكايات التناوب في حركة الوصول والخروج.
في الماضي كان للداخل والخارج بلاطة ونحّات. الآن تتم الامور بالحبر السري، او بقوة الدفع. واذ تمر الامة، من اقصاها الى أدناها، في متحولات لم نعرف مثلها منذ اوائل القرن الماضي، نجد أنفسنا في باطل الاباطيل: من يقتحب هذه الحقيبة ومن يقتحب تلك. وفي الماضي كان المقياس في الرجال وأي قيم وأي تاريخ يمثلون، والآن الحرب حول أي حقيبة يعطون.
بلد بلا دروس وشعب بلا عظة. فنحن اليوم ندون مرور نحو أربعة عقود على نيسان الذي بدل ان يحمل الينا موسم البنفسج والبيلسان حمل أعماق الجحيم وأبواق الغربان. وبدا الانزلاق خلف النعاة سهلاً كأنما الجميع كانوا في انتظار الاشارة وكلمة السر. وتحول البلد المباهي بالتحضر والتقدم والجامعات الى غرائز همجية، لن تتفوق عليها إلاّ رواندا. التي، فقط للمناسبة، كان أصل اسمها «بني ارواندا»، لعلاقة ما مع الروح العربية الأبية.
وقد كان على لبنان، بسبب تكارم بنيه وميوع دولته، ان يخوض باقي حروب العرب وكل حروب الامم. وما بدأ نضالاً شعبياً للحفاظ على حقوق صيادي السمك، ما لبث ان حوّل بيروت الى هانوي العرب، فيما العواصم الاخرى تتمتع باصطخاب هونغ كونغ وحساء سمك القرش. وتعرضت بيروت لأن تعرف وحدها العارين التاريخيين، وصول أرييل شارون الى سرايا بعبدا، والحاق مذبحة صبرا وشاتيلا بـ»الميليشيات المسيحية».
ها نحن نبحث عن الاحلام بين الاقدام. لم نرَ في ما جرى حولنا من زلازل سوى فرصة للقيام ضد النظام الطائفي. جورج نقاش، القادم من عالم الهندسة والزوايا الحادة، كان يسمي الميول الرومانسية «صبيانيات»، مستخدما التعبير الانكليزي. وعندما نرى هؤلاء الشبان والصبايا يخالطهم أحياناً رجال دين باثوابهم غير الطائفية، نتذكر ان الدعوات الى الغاء الطائفية بدأت في القرن التاسع عشر (2) وحملها رجال مثل ناصيف اليازجي، ثم تلقاها العام 1908 أسد رستم وتحولت الدعوة الى موجة بأقلام نعيمة والريحاني وجبران والشاعر القروي». وربما لا يعرف هؤلاء الشبان والصبايا ان دستور 1926 نص على الغاء «الآفة» في ما بعد. وفي ما بعد، في بلد مثل لبنان، تعني الابدية وما تلاها، والازل وما عداه.
شعب غير قادر على تفسير دستوره الوطني كيف سينزع من نفسه علة التصادم مع الآخر والتفوق عليه والغائه من صيغة الوجود. اذ يتعثر الرئيس ميقاتي في تشكيل حكومته، كي لا يتحول الحل الى مشكلة، ننسى انه يتعذر على الدولة حتى اجراء التعيينات والتشكيلات. ومن المصادفات ان السفارة في أبيدجان لم تكن خالية من موقع السفير وأخشى اننا سوف نعتاد غياب الديبلوماسيين كما تعودنا غياب الديبلوماسية والسياسة الخارجية. وربما كان ذلك من حسن الحظ، على ندرته وكثرة السيىء فيه. ففي التجاذب الذي نحن عليه كيف يمكن ان تكون لنا سياسة خارجية واحدة ونحن أعجز من الاتفاق على سياسة داخلية واحدة. لم يبق من علامات الانقاذ سوى حسن المصادفات، كأن يكون المؤهل الذي أردى مطلوب مجدل عنجر من البلدة نفسها. تخيل قطع الطرق وهدم الجسور لو أنه لم يكن.
يريد كل فريق ان يأخذ الدولة الى صفه، لا الى نقطة الوسط التي تلتقي عندها الامم. ويعتمد كل فريق تفسيراً أحادياً للدستور، الذي صار موضع اقتتال بدل ان يكون مرجعية الحلول.
ويغيب عنا اننا جزء من أمة غارقة اليوم في يم البحث عن الذات، بين ما هو جذور وما هو تطلع. والحقيقة اننا لسنا في حاجة الى اعادة النظر في الانظمة التي قامت على ثقافات وظروف ومقاييس منتصف القرن الماضي وانما الى التأمل في مكونات ومقاييس المجتمع العربي اليوم.
لقد نمت مصر من 20 مليوناً الى 84 مليوناً. وهناك 20 مليوناً يسكنون القاهرة وضواحيها. واذا كان طه حسين قد ولِّي «عميدا للادب العربي» يوم عاد حاملاً الدكتوراه من السوربون، فإن الآف العرب ينالون الدكتوراه كل سنة في شتى العلوم. وليس مهماً انه ليس بينهم طه حسين آخر. فالارحام خصبة بالكثرة، مقلة بعباقرة الزمان.
لم تتغير أولويات الجيل العربي الجديد، ولكن أضيفت اليها أولويات كثيرة أخرى. وهذه ليست أولويات العرب وحدهم بل أولويات البشر عبر الارض. في نقاش (3) تلفزيوني حول ابقاء جثمان لينين في الكرملين، قال الخالع فلاديمير جيرينوفسكي إنه يجب اخفاؤه. وسئل طالب في السادسة عشرة عن رأيه، فقال إن موضوع «رئيس سابق» لا يعنيه، وكل ما يريد هو تأمين اقساط الدراسة.
لعل طالب 1960 كان سيقول إنه يحلم بأن يصير للاتحاد السوفياتي كفايته من القمح، وهو طموح زعيم الحزب نيكيتا خروشوف الذي بنى جدار برلين في مرحلة العداء الحار مع الغرب. وفي مرحلة مختلفة جداً، سقط الجدار من تلقاء نفسه. ليس لأن الزعيم قد تغير بل لأن العالم برمته هو الذي تغير.
نصف الأمة – على الاقل – في الشوارع والميادين. وللوهلة الاولى هذا دليل جيد، أو جديد، على الاقل. ولكن في التأمل المبسَّط، هذه حالة من الغموض. الشارع له قدرة الهدم، لكننا لا نعرف عن دولة بناها متظاهرون، أو عن دستور كتب فوق الارصفة. ومن السهل جداً القول إن المليارات التي خسرتها مصر في أربعة اشهر، ليست بالأمر المهم. لكن القول يصير صعباً عندما نعرف ان تعويض هذه الخسائر لن يتم في 40 شهراً. ولا يفيد القول إن اليمن بلد عاطل عن العمل في أي حال، وموارده في الفقر أكثر من موارده في العمل. فالعيش في شوارع صنعاء وتعز تماد في الفقر وفي نشر البطالة واعاقة الاقتصاد. وسيد التمادي اليوم هو الرئيس الذي يكرر مشهد لوران غباغبو وربما مشاهد القذافي في توسل القوى القبلية.
إنها الحرب بالساحات التي بدأناها هنا في بيروت. وفنون الاعتصام، التي أيضاً ابتدعناها هنا، وفي نهاية اعتصام شل العاصمة سنتين وافلس وسطها، خرج نائب من نواب الشعب العنيد يقول ان ذلك كان «انتصاراً للعروبة». لا ندري إن كانت العروبة ضحكت أم بكت وهي تسمع بهذا النصر يعلق عليها. ولعلها، العروبة، هي أحوج ما تكون اليوم الى التأمل واعادة النظر. عروبة تتسع لجميع فئات الأمة وطبقاتها وأعراقها. وتنزع من النفوس تلك المخاوف التي تجعل كل عربي يحلم بالهجرة أو بالقسمة. عروبة تلغي ثقافة المتفجرات والمكامن والحرائق، وتبحث عن الحلول في اعالي النفس البشرية. وكم كان كلوفيس مقصود راقياً عندما انتبه الى الامتلاء الانساني الرائع في تونس التي استقبلت، برضى ومحبة، 200 الف لاجئ من جحيم معمر القذافي، الذي لا يزال يقصف جرذان مصراتة واجدابيا والبريقة والزنتان ويهتف باسماً: الى الامام، الى الامام.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك