كتب شادي الياس:
حدثت، في عهد هيرودس، مذبحة الأطفال الهادفة إلى قتل الطّفل يسوع، علمًا أنّها لم تكن المذبحة الأولى التي يتعرّض لها اليهود في عهده. وبعد موت هيرودس بمرض سبّب له أوجاعًا كبيرة، قسّم مملكته في وصيّته، ثلاثة أقسام، على أولاده الثّلاثة. أورث أورشليم الى أرخيلاوس، والجليل الى أنتيباس، أمّا الجولان وجبل حرمون فورثهم ابنه الثّالث فيليبس. أرخيلاوس كان طاغية أكثر من أبيه، أمر جنوده بذبح ثلاثة آلاف رجل يهوديّ في يوم واحد. وصل خبر المجزرة الى الإمبراطور أغسطس قيصر فأمر بنفيه الى جزيرة في فرنسا عام ٣ بعد الميلاد. واستلم الحكم بعده بيلاطس البنطيّ.
في ظلّ هذه التّغيّرات السّياسيّة والوضع الكارثيّ بسبب هذا الاحتلال الدّمويّ، وفي حين كان اليهود يتضرّعون إلى الرّبّ ليرسل لهم المسيح ليحرّرهم من حكم الرّومان، نرى تدبير اللّه يعمل بأسلوب دقيق في تفاصيله، فنلاحظ أنّ حكمة السّماء تختلف عن حكمة البشر وحساباتهم.
لم يشأ الرّبّ أن يترك ابنه يتربّى وينشأ في مصر ويتأثّر بالحضارة الوثنيّة. لذلك أتى الملاك جبرائيل إلى القدّيس يوسف في حلمه الثّالث وأمره أن يعود هو ومريم والطّفل يسوع إلى إسرائيل لأنّ هيرودس الكبير قد مات.
عاد القدّيس يوسف ومريم والطّفل يسوع الى أورشليم، في عهد أرخيلاوس، بعد رحلة سفر طويلة وشاقّة، وسمعوا أخبار الكوارث والجرائم بشأن الثّلاثة آلاف رجل . خاف يوسف وشكّ في دعوة اللّه له، فخرّ على ركبتيه يصلّي، وهو في قلق على مصير الطّفل. أتاه الملاك في الحلم الرّابع وأمره أن يذهب إلى الجليل، ليس فقط لأنّه مكان آمن، إنّما لأنّ الرّبّ يريد أن يتربّى الطّفل يسوع ويتعلّم في الشّمال، حيث لا يزال القليل من التّراث العبريّ موجودًا، وليتعرّف يسوع إلى تاريخ ومسيرة الشّعب، وليتعلّم مبادئ اللغة الآرامية لغة الوثنيّة في تلك الأيّام. هذه المنطقة كانت أيضًا تقاطع طرق التّجارة العالميّة، حيث تربط روما بالشّرق. فكانت ملتقى الحضارات حيث تندمج الشّعوب ببعضها وينتج عنها أسوأ العلاقات المنحرفة العابرة، والتّدهور الأخلاقيّ الكبير. ولم يكن مصادفةً ذكر النّبيّ أشعياء قبل ألف عام إنّ المسيح المنتظر سيكون ناصريّاً. فأمر الملاك جبرائيل القدّيس يوسف أن يذهب ويستقرّ في بلدة مريم في النّاصرة.
يمكن اعتبار أنّ قرار الإمبراطور أغسطس قيصر بإحصاء أعداد أفراد مملكته، جعل القدّيس يوسف ومريم ينزلان إلى بيت لحم مسقط رأسه، عندها تمت نبوءة النّبيّ ميخا عندما قال إنّ المسيح سيولد في بيت لحم وليس في روما العظيمة.
هكذا استقبلت البشريّة مخلّصها الفادي، لم يستقبلوه في أيّ مكان، أغلقوا الأبواب في وجهه، لم يولد في قصور وعلى العروش، ولد في مغارة اسطبل حقير بارد مظلم مليء بالأقذار والحيوانات.
لكن إن تعمّقنا أكثر في هذا الحدث، نرى أنّ المجيء لم يكن للملوك وأصحاب السّلطان ومن أجل تعديل التموضعات الدّوليّة. لقد أتى من أجل معالجة سبب الحروب وسبب الأحقاد، معالجة الخطيئة في قلب الإنسان قادرة على تغيير العالم، الحبّ أقوى من الشّرّ. وانتصر الحبّ في نهاية المطاف. هذه المغارة الظّلماء تفجّر فيها نورٌ لن ينطفئ في العالم بعد اليوم. في هذه القذارة تمّ التّحوّل العجيب إلى أشدّ الأماكن طهارةً وتستمرّ في تطهير كلّ من يؤمن بيسوع المسيح. هذه الحيوانات التي كانت موجودة، المنبوذة في اسطبل، المستعبدة، التّعيسة، أتاها ضيف أدخل الفرح إلى قلبها، هذا الضّيف أعطى حتّى للحيوان كرامة وفرحًا ونورًا، وتحوّلت هذه المغارة إلى موطن المحبّة الدّائم ورمز المصالحة والمفاجآت المبهرة.
بعد بشارة الملاك للرّعاة، أتوا مسرعين لرؤية المخلّص.
أتى الرّعاة، ووجدوا القدّيس يوسف قد جاء بأغلى قطعة قماش وجدها واشتراها بكلّ ما يملك، والقدّيسة مريم تقمّط يسوع بقطعة قماش بأيادي اللّطف والحنان في إطار من الدّفء والحبّ، صنعاه للطّفل يسوع. هذا الطّفل الذي رفضه العالم وتسبّب في أفظع مجزرة أطفال في التّاريخ من أجل قتله. اختار اللّه رجلًا بارًّا وفتاةً عذراء، وجعلهما رمزاً للأبوّة والأمومة اللذان اشتهتهما الأجيال، وتكرّمهما من جيل الى جيل. وجد الرّعاة طفلًا صغيرًا، يجمع مربّيه القليل من التّبن والحشائش لينعّم ملمس المزود الخشبيّ الصّلب. كلّ شيء كان قاسياً، وصعباً، بارداً وخطراً جدّاً في الخارج، كلّ الدّنيا كانت مظلمة سوداء مليئة بالأنانيّة. إلّا في هذه المغارة، عند العائلة المقدّسة التي حضنت الطّفل يسوع المشعّ بالنّور، غير القادر على الكلام. طفل جميل جدّاً لم ترَ البشريّة طفلاً مثيله، طفلاً أتى إلينا ليخلّصنا من خطايانا، ويموت من أجل معاصينا، ويدفع جزية آثامنا عنّا، ليرجعنا الى حضرة الآب السّماويّ، لنستطيع أن ننظر إليه ونقول له يا أبانا. إرحمنا. ميلاد مجيد وعام سعيد.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك