كتب زياد شبيب في "النهار":
القتل بذريعة قضيّة نبيلة مارسه كثيرون عبر التاريخ والقضية تكون أحيانًا إلهيّة وأحيانًا أخرى قضية عدالة اجتماعية أو تحرير أرض محتلّة. في "الجريمة والعقاب" أقدم "راسكولنيكوف" طالب الحقوق الفقير، على قتل المرابية العجوز الشريرة ظنًّا منه بأنه يقدّم خدمة للإنسانية وأعطى لنفسه المبررات المنطقية وقارن نفسه بالقادة العسكريين التاريخيين الذين برّروا حروبهم الدامية بدوافع نبيلة، ولكنه أثناء التنفيذ اضطر إلى قتل قريبتها البريئة بسبب تواجدها غير المنتظر في مسرح الجريمة، ما جعله يعيش صراعًا داخليًا كان أشدّ ألمًا من العقوبة الجنائية التي نالها لاحقًا في سجون سيبيريا. لكن "دوستويفسكي" ترك باب الخلاص مفتوحًا أمام بطل قصّته فهذا ممكن بالتوبة الصادقة المترافقة مع الألم والحب.
القتل يكون معنويًّا كما يكون جسديًّا. واليوم يخلط البعض بين حرية الإعلام بمعناها السليم وبين القدرة على ممارسة القتل المعنوي عبر قول ما يشاؤون بحق من يشاؤون دون خوف، وطبعًا دون أي اعتبار للحقيقة أو للنتائج القانونية التي تترتب نظريًا على الخبر الكاذب أو القدح والذم.
هذا الخلط البريء أحيانًا والمقصود أحيانًا أخرى يؤدي غالبًا إلى تراجع المصداقية وتضاؤل الثقة بالخبر والتحليل الذي تنقله أو تنشره بعض الوسائل الإعلامية. وأزمة المصداقية ليست ناجمة عن تخطّي القواعد المهنية التقليدية وحسب، أو عن اعتماد الإثارة والتنافس على السبق الإعلامي وعلى تحقيق أرقام كبيرة من القرّاء والمشاهدين، بل هي متأتية من الشعور بالقوة عند البعض وبعدم الخوف من عقاب القانون عند الخطأ، وهذا يتسبّب بضعف الرقابة الذاتية وانعدام الحاجة إلى ممارستها أصلًا. وأزمة المصداقية هذه هي أحد أسباب تراجع دور لبنان الإعلامي الذي لم يعد منارة الحريات في المنطقة كما كان لعقود طويلة، بالإضافة إلى عوامل أخرى أهمها استثمارات الدول الهائلة في هذا القطاع بوسائل إعلامية ناجحة أصبحت تغطّي معظم الفضاء في المنطقة، فتراجعت الحاجة إلى لبنان ووسائله التي لم تعد تلعب دورها السابق في صناعة الرأي العام العربي.
هامش الحرية الإعلامية في لبنان اتّسع وأصبح مصدر أمان وفخر للعاملين في هذا القطاع، بغض النظر عن بعض الملاحقات الكيدية والانتقامية التي تحصل بحق الإعلاميين من وقت لآخر. ولكن هذا "الهامش" تضخّم عند بعض المتفلّتين من القواعد المهنية، وسادت حالة اختلاط بين الحرية المكتسبة والحصانة الضرورية لممارسة المهنة وبين الارتكابات التي تحصل تحت هذا الغطاء.
المفارقة أن هناك من الباحثين من يعتقد أن بعض الممارسات الإعلامية الفاقعة التي تحصل أحيانًا في لبنان هي نتيجة التطوّر الذي عرفه مسار الحريات عندنا وأنها نتيجةٌ لنضالات كبار الصحافة اللبنانية على امتداد القرن الماضي ممن كانوا أصحاب قضايا كبرى دافعوا عنها وعانوا القمع والسجن وتعرّضوا الاغتيال.
هذا الربط يفتقد إلى الدقة طبعًا لأنه يغيّب عوامل أخرى أدّت فعليًّا إلى توفير القدرة على الممارسات النافرة، ومنها تجربة الإعلام في مرحلة الحرب الأهلية وهي المرحلة التي ظهر فيها نوع جديد وازدهر وهو إعلام الميليشيات. إعلام الميليشيات في الحرب يُشبه الكيانات التي ولدته، والقلم أو الميكروفون لا يختلف من حيث الوظيفة عن الرشّاش الذي يسمح لحامله بأن يتحوّل إلى صاحب سلطة تخوّله التحكّم بالناس بسبب قدرته على إيذائهم من دون عقاب.
لم ينتهِ هذا النوع من الإعلام رغم انتهاء الحرب الأهلية العسكرية بل استمرّ في مرحلة الحرب الأهلية الباردة القائمة. استمرّ بمفاهيمه وأساليبه التي تمرّس عليها ومنها الاستقواء وعدم الخوف من العقاب والشعور بالقدرة على القتل بحجة "القضية" وأحيانًا بسبب تواجد الضحية في المكان الخطأ.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك