كتبت راغدة درغام في "النهار العربي":
أبحر الرئيس الصيني شي جينبينغ بين تثبيت التعاون الاستراتيجي مع روسيا ورئيسها فلاديمير بوتين وبين الحرص على عدم تدمير علاقاته مع الغرب، وبالذات الولايات المتحدة، فكانت زيارته الى موسكو الأسبوع الماضي مطمئنة لإدارة الرئيس جو بايدن كما كانت مفيدة لبوتين اقتصادياً وسياسياً. رسالته الى الشرق الأوسط، سيما الى السعودية وإيران اللتين جمعتهما الديبلوماسية الصينية في بيان مبادئ مشتركة، تضمّنت الإيماء بأن ما يجمع الصين وروسيا وإيران هو "ترويكا" وليس "محوراً" استراتيجياً بما يعنيه ذلك من تحالفات استراتيجية. لكل هذه الرسائل مؤشرات تستحق التوقف عندها لقراءة أبعادها وإفرازاتها.
على مستوى العلاقات الثنائية بين الصين وروسيا، نجحت زيارة شي في توطيد العلاقات الاقتصادية بين الصين وروسيا عبر اتفاقيات تجارية ضخمة بمليارات الدولارات، وعلاقات نفطية فائقة الأهمية، والاتفاق على بدء بناء أنابيب غاز عبر سيبيريا تكون بمثابة بديل أو تعويض عن أنابيب نورد ستريم-2، كما عبر توسيع التعاون العسكري التقني بين البلدين.
ما حرص عليه الرئيس الصيني هو الإيضاح لكل مَن يعنيه الأمر أن بكين لن تمدّ موسكو بالأسلحة التي يمكن لروسيا أن تستخدمها في الحرب الأوكرانية. حرص على التمييز بين التعاون الوثيق بين الصين وروسيا كشريكين متشابهين في المواقف السياسية سيما نحو الغرب، وبين الظهور وكأن البلدين يسيران نحو الوحدة.
الرئيسان اتفقا على خطوط عامة من التعاون سياسياً في المحافل الدولية مثل الأمم المتحدة ومجموعة العشرين وغيرهما. ما تجنباه على الأرجح نزولاً عند رغبة الطرف الصيني، هو إصدار بيانات مشتركة يمكن للولايات المتحدة أن تقرأها بأنها معادية لها. كانت البيانات عامة ولم تنطوِ على أي تعهّد بالتصدّي للولايات المتحدة. كانت الصين حذرة جداً على ألاّ تبدو بأنها تدعم روسيا في كل مواقفها. لذلك، ارتاحت إدارة بايدن، ولم تقلق.
لم يتم التوصل الى اتفاق عملي وخطوات ملموسة في اطار خطة السلام الصينية للحرب الأوكرانية. اكتفى الرئيسان بالتأكيد على مبادئ عامة ذات علاقة بالمبادرة الصينية.
لم يبحث الرئيسان في تفاصيل الترويكا الصينية- الروسية- الإيرانية واكتفيا بالتأكيد على استمرار التعاون مع طهران وسط ترحيب الرئيس بوتين بالمبادرة الصينية بين السعودية والجمهورية الإسلامية الإيرانية.
كل ذلك يعني أن الرئيس الصيني شي جينبينغ يحسن اتقان الإبحار الدقيق وينوي الالتزام بأولويات الصين الاستراتيجية وفي مقدمتها مشروع "الحزام والطريق" الذي يتطلّب توسيع رقعة التعاون وتضييق آفاق المحاور الاستفزازية.
ستكون رعاية الصين للاتفاق السعودي- الإيراني المتعدّد الأبعاد والمبني على احترام سيادة الدول وحسن الجوار وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى تحت المجهر، اقليمياً ودولياً. فإذا تقاعست في مراقبة تنفيذ الاتفاق، ستكون الصين نفسها معرّضة للمحاسبة الديبلوماسية والسياسية والاقتصادية. هيبة الصين كدولة كبرى دخلت حلبة الوساطة السعودية- الإيرانية أمر مهم للديبلوماسية الصينية وللاستراتيجية الصينية. ولذلك، منطقياً، لن تتورط الصين بين مخالب الاستفزاز والمواربة والتذاكي؛ فسمعتها وهيبتها في المعادلة.
هذا ما يراهن عليه المقتنعون بأن الصين ستكون ضامناً جديّاً ملتزماً بمراقبة تنفيذ التعهدات الإيرانية والسعودية الواردة في نص وروح الاتفاق. سعودياً، تكاد الصورة تكون بلا تحديات. إيرانياً، ان المشهد برمّته يعتمد على ما إذا كانت طهران ستكتفي بتجميل أدائها وتلطيف خطابها السياسي، أو ان كانت ستبدأ حقاً في إجراءات تغيير نهجها وايديولوجيتها فتتخلى عن مشروعها الإقليمي الممتد من اليمن الى العراق الى سوريا الى لبنان.
الامتحان الأول سيكون في اليمن لأن الأمر يتعلق بالأمن القومي السعودي مباشرة. سيكون على القيادة الصينية أن تكون حازمة جداً مع القيادة الإيرانية في هذا الملف وسيكون عليها إلزام رجال الحكم في طهران بالتوقف عن دعم الحوثيين عسكرياً كلياً وبلا بدع التنصّل العلني فيما الدعم السرّي ماضٍ الى الأمام. هذا يتطلب وضع برنامج زمني واضح لحل شامل للأزمة اليمنية استعصى على الجهود الأميركية والأممية على السواء. فشل الصين في هذا المسعى سيجعلها عرضة للانتقاد وللاستخفاف بجهودها وباعتقادها أنها قادرة أكثر من غيرها أن تمون على طهران.
أدوات الضغط والتأثير على رجال الحكم في طهران متوافرة في أيادي الصين، إنما السؤال هو: الى أية درجة ستستخدم الصين تلك الأدوات؟ وما هي درجة جهوزية رجال النظام الإيراني للإقلاع عن منطق وجوديتهم ووجودية النظام الذي يتخذ من سياسته نحو اليمن أساساً عميقاً للعقيدة والسياسة الإيرانية؟
الصين ستحتاج روسيا في مسعى التأثير على إيران نظراً للعلاقة التحالفية الروسية- الإيرانية ميدانياً، من سوريا الى أوكرانيا. لكن العلاقات الصينية- الإيرانية بحد ذاتها واسعة وعميقة، وحاجة طهران الى بكين كبيرة اقتصادياً وسياسياً وتموضعاً استراتيجياً.
كلاهما- الصين وروسيا- ليسا اليوم في وارد السماح بأن يسقطا في أية خديعة تؤدّي الى تدهور علاقاتهما مع السعودية والدول الخليجية. لذلك، منطقياً، لا بد أن يبلغا الجمهورية الإسلامية الإيرانية أن عليها التأقلم الجدي مع المصالح الكبرى للصين وروسيا، وأن في هذا التأقلم فوائد للمصلحة الإيرانية.
القراءة الدقيقة لما صدر عن لقاء الرئيسين شي وبوتين تفيد بأن تلك الترويكا التي كانت في ذهن القيادة الإيرانية سابقاً لم تعد واردة حالياً، وأن الواقعية السياسية حوّلت الترويكا من محور التحدي والمكابرة والفرض بالقوة والتوسّع ايديولوجياً الى ثلاثية تعاونية. الغامض هو مدى صدق رجال النظام في تقبّل هذا التغيير الجذري جديّاً وباستمرارية، ليس فقط من زاوية التلطيف المؤقت للأداء.
تلطيف الأداء وتجميل الخطاب والابتعاد عن الاستفزاز وتجنب المواجهة أمور جيدة بحد ذاتها- وهذا إفراز إيجابي للاتفاق الثلاثي الصيني- السعودي- الإيراني مهما كان. لكن هذا ليس المطلوب سعودياً وخليجياً. قد يكون مطلوباً أميركياً كمرحلة انتقالية انطلاقاً من أن التهدئة مفيدة. أما سعودياً، ان الهدف من المسيرة مع إيران هو إحداث التغيير الجذري في العلاقات كما في النهج الإيراني نحو المنطقة العربية. فالتهدئة مفيدة ومرحب بها، إنما العبرة تكمن في النهج والعقيدة والتطلعات الى صفحة جديدة في علاقات دول الشرق الأوسط.
الولايات المتحدة ليست مستاءة من دخول الصين ساحة التأثير في سياسات الشرق الأوسط طالما انها لا تعمل نحو تكتّلات أمنية مع الدول الخليجية العربية. فهذا خط أحمر، وهذا ما لا تسعى الصين وراءه، فهي تدرك أن الدول العربية الخليجية اتخذت قرار إثبات استقلاليتها لكنها لم تتخذ أبداً قرار الاستغناء عن علاقاتها الحيوية مع الولايات المتحدة وفي مقدمتها العلاقات الأمنية.
ثم ان الإدارة الأميركية تعمل بالموازاة لإضعاف القبضة الإيرانية، في العراق مثلاً حيث القبضة مالية وسياسية وأمنية تستنزف العراق. الاتفاق الصيني- السعودي- الإيراني يساعد الجهود الأميركية ولا يعرقلها لأنه يأتي بأجواء جديدة تفرض الابتعاد عن أنماط الاستفزاز والمواجهة التي اعتمدها رجال الحكم في طهران.
لبنانياً، حتى ولو بدا وأن لبنان ليس في أعلى سلم الأولويات، ان "حزب الله" بحد ذاته يشكل حلقة بديهية في مسيرة التهدئة والتفاهمات وتلطيف الأداء- وهو في صلب امتحان ما إذا كان رجال الحكم في طهران قد اتخذوا قرار تعديل منطق النظام أو مجرد تجميل السلوك مرحلياً شراءً للوقت واستثماراً في استمرارية النظام وعقيدته.
الصين قد لا تستثمر وزنها في بلد صغير مثل لبنان لكنها ليست جاهلة لوزن المعادلة اللبنانية خليجياً وسعودياً من زاوية "حزب الله" وأدواره الإقليمية التخريبية بإرشادات من "الحرس الثوري" في طهران. وعليه، ستضطر الصين لتوسيع بيكارها السياسي والديبلوماسي إذا كانت جديّة في ضمان الاتفاق بين السعودية وإيران. فالشيطان في التفاصيل، وقد يكون بلد صغير ومنهار وضائع في الفساد والسلاح خارج سلطة الدولة موقع قدم انزلاق الديبلوماسية الصينية الى فشلٍ لا تريده قيادتها. فاقتضى التنبيه.
سوريا قد تكون ساحة اختبار للتعايش العربي- الإيراني بتنازلات خليجية بعدما توغّلت إيران فيها وباتت الحكومة السورية مدينة لطهران ومعتمدة عليها للبقاء. الإقبال الخليجي على الرئيس السوري بشار الأسد ما زال غامض الأسباب في صلبه بالرغم من وضوح معظم ملامحه الاقتصادية منها والسياسية. إنما هذا موضوع معقّد يستحق التركيز عليه لاحقاً. خلاصة القول هنا هي أن سوريا قد تكون ساحة للمقايضات ومساحة اما لإرضاء طهران عبر الشراكة معها أو لفك قبضتها عن سوريا لاستعادتها عربياً.
لقد دخلت الصين وكراً قد تكون لم تدرك سمومه، وقد تكون قد درست كل تضاريسه وارتأت أنه العرين الأفضل لها. حتى الآن، وان ما زال باكراً، هناك أسباب للتفاؤل بدور صيني يتعدى القشور السطحية. التحدي يكمن في إحداث تغييرات جذرية ونوعية. فلننتظر ونأمل.
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك