كتب أنطوان الفتى في "أخبار اليوم":
نعود الى الاستخفاف اللبناني المزمن بكلّ شيء، الى أن تقع المشكلة الكبرى، ويبدأ البحث عن الحلول في عزّ الأزمات، ومثل من يبحث عن نفسه في دهليز.
مهما كثُرَت المشاكل السياسية والديبلوماسية، إلا أنها غير قادرة على تحوير الإنتباه عن المشاكل الحياتية التي "نتنفّسها" يومياً، والتي على رأسها الأزمة الدوائية الحادّة، المستمرّة حتى الساعة، رغم الكثير من التطمينات التي يكذّبها الواقع، على الأرض.
حصراً
قد يرى البعض أن الأزمة الدوائية خفّت، أو أنها لم تَعُد كما كانت عليه قبل أشهر. وهذا ليس دقيقاً إلا بنسبة معيّنة، محدودة جدّاً، تترك المجال لكثير من القلق من الآتي مستقبلاً، خصوصاً أن أكثر من مُطَّلِع على الواقع الصحي، وأكثر من عامل في صفوفه، يؤكّد أن ذيول الفوضى التي تتحكّم بالواقع الصحي والدوائي باقية، بأشكال كثيرة ومختلفة، وأنه لا يُمكن الرّكون الى شيء قبل الإفراج عن الحلّ التامّ والكامل.
ففي جلسة مع أصحاب الإختصاص في عوالم "الذمّة والضمير"، قبل تخصُّصهم في الشأن الصيدلاني والطبي، نفهم أن كل المحاولات الرسمية لحلّ أزمة انقطاع الأدوية منذ أشهر، تمتّعت بمنطلقات خاطئة، أبرزها استبعاد أمر واقع تخزين الأدوية في عدد هائل من الصيدليات والمستودعات، وليس فقط في المنازل، بما أخّر الكثير من الحلول المُمكنة منذ البداية، وحصر المشكلة بالاحتياط المتآكِل من العملات الصّعبة، في مصرف لبنان، حصراً.
تخزين
يؤكّد عارفون بالواقع الدوائي أن التوجيهات الرسمية سواء من قِبَل وزارة الصحة، أو من جانب نقابة الصيادلة، تركّزت قبل أشهر على محاولة توجيه العمليات الشرائية، بما يحاول حصرها بتعامُل كل مريض مع الصيدلية التي هو زبونها فقط، وهو ما يمنع التخزين المنزلي، انطلاقاً من أن هذا السلوك الشرائي يُلغي التجوال على أكثر من صيدلية، في عدد من المناطق، بما يسمح لمريض واحد من الحصول على عدد كبير من الأدوية، من صنف واحد، وفي يوم واحد ربما.
ولكن الخطأ في هذا الإطار، يتعلّق بإهمال الأساس، وهو أن التخزين الصيدلاني للأدوية، وحَجْب بيعها حتى عن المرضى التقليديين الذين يتعاملون مع صيدلية معيّنة أنفسهم، استمرّ، في انتظار إما رفع الدّعم، أو تعديل أسعارها بحسب تقلّبات أسعار الدولار في السوق السوداء، وهو ما قطع الأدوية عن الناس، ودفعهم الى مزيد من التجوال على الصيدليات، والى مزيد من التخزين المنزلي.
مداهمات
عيب آخر، في العمل الرسمي على حلّ الأزمة الدوائية، وهو إهمال ضرورة القيام بمداهمات، وتوقيفات، منذ البداية. فالتخزين في الصيدليات والمستودعات لا يُمكن حلّه إلا بمسار قضائي وأمني حازم وحاسم، بعيداً من الاستعراضات، ومن الحمايات السياسية. وبما أن الأخيرة هي الأقوى، رأينا أزمة حادّة، ترتبط بالأخلاق في الأساس، قبل فقدان الدولارات والعملات الصّعبة من البلد.
فتخزين الأدوية في عدد من الصيدليات، لم يَكُن لتأمين الحدّ الأدنى من الاستمرارية لها، بل للتجارة، وتحقيق الأرباح، على حساب صحة المرضى. وهذا أدى الى كوارث قد لا نتمكّن من التخلّص منها قريباً.
تهريب
وعن الشقّ التقني من الموضوع، يؤكّد بعض المطّلعين على "أسرار" تلك الأزمة، أنه الى جانب "التقنين المالي" المُمارَس من قِبَل مصرف لبنان، والذي أثّر على استيراد الأدوية من الخارج بسبب مبالغ كثيرة متراكمة وعالقة، وهو ما انعكس انقطاعاً أو شحّاً كبيراً في عدد من الأدوية الضرورية، إلا أن إهمال العمل على ملف تهريب الأدوية عبر الحدود، فتح الأبواب لمزيد من التراكمات الكارثية.
أرقام
ويشدّد هؤلاء كلّهم على أنه رغم التطمينات الحالية التي يخرج بها البعض على الناس، إلا أن الأرقام التي بين أيدينا تُظهر أننا لا نزال بعيدين من الوضع الطبيعي الذي كنّا فيه، وأنه صار من المستحيل أن نعود الى وضعية ما قبل الأزمة، تماماً، في وقت قريب.
فعلى سبيل المثال، كيف يُمكن فصل البحث برفع الحدّ الأدنى للأجور عن الملف الدوائي والصحي؟ فبعض الأدوية التي رُفِعَ الدّعم عنها، والتي تجاوز ثمن بعضها الـ 200 ألف ليرة حالياً، لن تكون مُتاحَة لكثير من الناس، بعد مدّة غير بعيدة. فيما ترشيد الإستهلاك الدوائي ليس عملية سهلة أو بسيطة، وهي تحتاج الى من يتعاطى معها من خارج الأرقام فقط، أيضاً.
يلوح
وبما يختصر المشهد كلّه، سخر أحد أصحاب الخبرة والاختصاص، من دعوة بعض القيّمين على الملف الدوائي، للناس، الى فضح أسماء الصيدليات التي تبيع الأدوية بأسعار متفاوتة، قائلاً: "هم يعرفون جيّداً أن ذلك بلا مفعول، طالما أن لا قضاء فعّالاً وقادراً على المحاسبة".
وختم: "نصيحة الى أصحاب "الهمم الثّقيلة"، بأن يرافقوا مجموعة من المواطنين خلال يوم واحد، في تجوالهم على الصيدليات، وليدخلوا معهم عند طلب الحصول على أدوية. عندها، سيجد الجميع أن الأكثرية الساحقة من الأدوية المقطوعة متوفّرة، وأنها موجودة في الصيدليات، وأن عبارة "ما في" ستزول فوراً، عندما يلوح شبح المُحاسبة الفعلية من بعيد، إذا لاح".
غــــــــرد تــــــــعــــــــــــلــــــــيــــــــقــــــــك