كتب رامي الريّس في "الشرق الأوسط":
لطالما كانت إدارة الأنظمة التعدديّة تفرض إشكاليّات كبيرة لناحية إيجاد الآليّات الدستوريّة والسياسيّة التي تتيح التمثيل السياسي لمختلف مكونات المجتمع المتنوع من دون أن تطغى قوّة بعض منها على سائر القوى الأخرى، ومن دون أن تشعر قوى معيّنة بأنها مهمشة ضعيفة لا تمتلك إمكانيّة الوصول إلى السلطة أو إيصال صوتها وموقفها من الواقع القائم.
لبنان يُعد من أبرز المجتمعات التعدديّة، وقد نال اهتماماً كبيراً في أوساط الباحثين في علوم السياسة والاجتماع، نظراً لتكوينه المعقد وللإشكاليّات السياسيّة والعمليّة التي تحول دون انتقاله من مجتمع الإدارة الطائفيّ ة والمذهبيّة إلى مجتمع المساواة والعدالة الاجتماعيّة، مع ما يعنيه ذلك من تقدّم لدور الدولة المركزيّة على حساب الأطراف السياسيّة المكوّنة للمجتمع التي تتشكل منها مندرجات الحياة الوطنيّة والسياسيّة.
ولطالما وقع الانقسام بين اللبنانيين، ووصل إلى درجات عميقة أدّت إلى تفجّر العنف بشكل خارج تماماً عن السيطرة، كما حدث في الحرب الأهليّة الطويلة التي دامت لأكثر من 15 عاماً (1975-1990)، وغذتها الأطراف الإقليميّة الفاعلة المؤثرة في الساحة اللبنانيّة عبر الأدوات المحليّة. ولم تنتهِ تلك الحروب إلا باتفاقات كبرى حظيت بتغطية عربية ودوليّة أعيد من خلالها رسم التوازنات السياسيّة الداخليّة.
وبرز هذا الانقسام في كل مرة كانت تتفاقم فيها الخلافات السياسيّة حول هويّة الدولة وموقعها ودورها في المحيط وطبيعة علاقاتها الخارجيّة، كما حول وظيفتها الاقتصاديّة والاجتماعيّة، وعدم تمكنها من أن تعكس تطلعات اللبنانيين في أن يعيشوا تحت كنف مؤسسات دستوريّة وسياسيّة وقضائيّة تمكنهم من أن يمارسوا حقوقهم من خلالها، وأن يشعروا بالمساواة فيما بينهم، والطمأنينة على مستقبلهم ومستقبل أولادهم.
قد تكون ولاية الرئيس الراحل فؤاد شهاب (1958-1964) من الحقبات السياسيّة النادرة التي شعر فيها اللبنانيون بوجود الدولة بالفعل، ولمسوا ذلك من خلال عدد من المؤسسات الرقابيّة والإداريّة التي أُنشِئت وباشرت عملها في مجالات مختلفة. كما لمسوا ذلك أيضاً من خلال سعي الرئيس شهاب إلى إرساء سياسة خارجيّة متوازنة توفق بين الحفاظ على موقعه الطبيعي في العالم العربي، وإعفائه من تحمّل وزر نزاعات المحاور المختلفة وتسديد الأثمان، أو تحوّله إلى ساحة لتصفية الصراعات. ولعل لقاء القمة الشهير الذي عُقِد بين الرئيسين شهاب وجمال عبد الناصر سنة 1959 في خيمة على الحدود اللبنانيّة - السوريّة يصب في إطار احترام خصوصيّة لبنان ودوره العربي.
المعادلة واضحة: بقدر ما يقترب اللبنانيون من مشروع الدولة المرتجاة المنتظرة منذ عقود بقدر ما تتوفر إمكانيات تحصين المجتمع إزاء الأمراض السياسيّة المزمنة التي تنخر معظم مكوناته، وتمتلك إمكانيّة الإطاحة بكل مرتكزاته، تحقيقاً لمصالحها الفئويّة الخاصة التي تتناقض بطبيعة الحال مع المصلحة الوطنيّة اللبنانيّة، ولا تتماشى مع رؤية اللبنانيين لوطنهم ودولتهم.
ولكن فقط في لبنان مفهوم الدولة يعاني من ضبابيّة شديدة، وفقط في لبنان يتكرر السؤال التقليدي الممل: أي لبنان نريد بعد مرور مائة سنة على قيام دولة لبنان الكبير بالحدود الجغرافيّة الحاضرة وأكثر من ثمانين عاماً على نيله استقلاله الوطني؟ وفقط في لبنان تبقى الدولة الطرف الأضعف الذي يحتاج دوماً إلى غطاء سياسي من الأطراف السياسيّة الأخرى؛ وفي هذه المعادلة معاكسة للمنطق والمسار الطبيعي للتاريخ.
أما السؤال المركزي، فهو: إذا حزمت الدولة أمرها، هل تتوفر لها إمكانيّة تغيير الواقع القائم، ودفعه نحو واقع جديد يمكن من خلاله الانتقال بلبنان نحو حقبة جديدة مختلفة نوعياً عن الواقع الراهن الذي يختزن كل أنواع المآسي والصعاب، ويكتب كل يوم فصلاً جديداً من فصول المسرحيّة الدراماتيكيّة للمأساة اللبنانيّة التي باتت تتجلى في فقدان أبسط مقومات العيش الكريم والحياة اللائقة؟
لربما كان بالإمكان التفكير بتحقيق هذا الفصل بين الدولة ومكونات المجتمع السياسي، وتوسيع الهامش فيما بينها، لو كانت طبيعة تكوين الدولة بمؤسساتها وهيئاتها وأجهزتها تتمتع بالحد الأدنى من الاستقلاليّة؛ وهذا الأمر غير المتوفر راهناً. فالدولة قرارها السياسي مخطوف، وقرارها الاقتصادي مشلول، وقرارها الأمني معلق على حسابات هؤلاء واعتبارات أولئك؛ والمواطن اللبناني يدفع الثمن.